كتبت أندريانا بيلا
في خضم التحديات الجسام التي فرضها الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا، برز دور الدبلوماسية العامة والثقافية كسلاح حيوي لكسب القلوب والعقول. وتسلط الباحثة أندريانا بيلا في مقالتها الضوء على النموذج اللبناني، حيث مثلت الأنشطة المنهجية التي قادها السفير إيهور أوستاش (2016-2022) وزوجته الكاتبة مارينا هريميتش، نموذجاً ملهماً لدبلوماسية ثقافية فاعلة ومؤثرة.
مع اندلاع الحرب في فبراير 2022، تحول الوجود الأوكراني في المعارض الثقافية من فعل ثقافي إلى موقف سياسي وإنساني. ففي الدورة 63 لمعرض بيروت الدولي للكتاب في مارس 2022، لم يكن الجناح الأوكراني مجرد مكان لعرض الكتب، بل تحول إلى منصة مقاومة رمزية. تحت شعار "أوكرانيا التي لا تُقهر"، وُزعت المنشورات بينما عرضت الشاشات لقطات حية للقصف الروسي على المدن الأوكرانية. وفي إطار هذا الحدث، تم تقديم الترجمة العربية لأعمال الشاعر الأوكراني الأسير فاسيل ستوس، التي أنجزها المترجم عماد الدين رائف، مما مثل رسالة قوية عن صمود الثقافة الأوكرانية.
"الرفوف الكتابية الأوكرانية"
استمراراً لجهود ترسيخ الوجود الثقافي، أطلق السفير أوستاش والجالية الأوكرانية في لبنان مشروع "الرفوف الكتابية الأوكرانية في العالم العربي" تزامناً مع ذكرى استقلال أوكرانيا في أغسطس 2022. ويهدف هذا المشروع، الذي يأتي ضمن مبادرة السيدة الأولى أولينا زيلينسكا، إلى توزيع 12 كتاباً أوكرانياً مترجماً إلى العربية على المكتبات الرئيسية في 13 دولة عربية، من المغرب إلى الخليج. وقد أكدت الباحثة بيلا أن هذا المشروع جعل من البعثة الأوكرانية في بيروت "محوراً كتابياً" حقيقياً للعالم العربي.
تكشف الباحثة بيلا أن هذا الإنجاز لم يأت من فراغ، بل هو نتاج عمل دؤوب استمر لسنوات. فخلف هذه المشاريع يقف إرث من الترجمات بلغ حوالي 12 كتاباً خلال الفترة من 2016 إلى 2022، بفضل الجهود المشتركة للسفير أوستاش وزوجته. ومن أبرز هذه الإصدارات:
"القاموس الأوكراني - العربي الحديث" (مشروع أشرفت عليه مارينا هريميتش).
"إنجيل مازيبا" لعام 1708 (عملية اكتشاف وتوثيق أشرف عليها السفير أوستاش نفسه).
وقد تولى المترجم عماد الدين رائف ترجمة القسم الأكبر من هذه الأعمال، والتي شملت كنوزاً أدبية وتاريخية مثل: "الأوراق الذابلة" للشاعر إيفان فرانكو، أعمال ليسا أوكراينكا النثرية في مجلدين، وديوان شعري لأغاتانغل كريمسكي، و"الموجز في تاريخ أوكرانيا" لألكسندر بالي، الذي أصبح ذا أهمية استثنائية في ظل الحرب.
علميًا، يمكن تقييم الخدمة الجليلة التي قدمها المترجم عماد الدين رائف للأدب الأوكراني علمياً على أنها بناء رأس مال ثقافي-رمزي (حسب مفهوم عالم الاجتماع بيير بورديو) للأدب الأوكراني في الحقل الثقافي العربي، من خلال عملية منهجية شملت ثلاث دوائر مترابطة: التأسيس بترجمة النصوص التأسيسية للهوية الأوكرانية (كفرانكو وسكوفورودا)، والتحديث بنقل أعمال أدبية معاصرة، والتوثيق عبر إنشاء موقع إلكتروني متخصص، مما خلق وجوداً مؤسسياً ومستداماً للأدب الأوكراني في الوعي الثقافي العربي، متجاوزاً النقل اللغوي إلى بناء جسر حضاري قائم على المعرفة المتعمقة بخصوصية النصين المصدر والهدف.
كما تبرز الباحثة بيلا حدثين ثقافيين بالغي الأهمية:
1. إحياء تراث سكوفورودا: بمناسبة الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف الأوكراني غريغوري سكوفورودا، تمت للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الأوكرانية اللبنانية ترجمة مجموعة من أعماله إلى العربية. وكان السفير أوستاش هو المبادر بهذا المشروع الصعب، الذي تجنبته الأوساط الأكاديمية سابقاً نظراً لصعوبة نصوصه الفلسفية. مرة أخرى، تمكن المترجم عماد الدين رائف رائف من التغلب على هذا التحدي اللغوي وقدم أسلوب سكوفورودا الفريد للقارئ العربي، مصحوباً بفيلم وثائقي مترجم إلى العربية عنه.
2. مهرجان السينما الأوكرانية: بعد انقطاع بسبب الجائحة، عاد المهرجان السينمائي الأوكراني الخامس في سبتمبر 2022 ليكون ختاماً رمزياً لفترة عمل السفير أوستاش. وعُرضت أفلام مثل "زاكار بيركوت" و"أفكاري هادئة"، واختتم المهرجان بيوم للثقافة الأوكرانية في أنطلياس، ضم معرضاً للكتب المترجمة وعروضاً فنية وموسيقية حية.
تخلص الباحثة أندريانا بيلا إلى أن النشاط المنهجي لسفارة أوكرانيا في لبنان، تحت قيادة السفير أوستاش، يقدم نموذجاً عملياً لدبلوماسية عامة عالية الجودة في أصعب الظروف. لقد أثبتت هذه المشاريع، وخاصة في مجال الترجمة والنشر، أن بناء الجسور الثقافية هو استثمار استراتيجي طويل الأمد، يمكنه أن يصمد في وجه العواصف وأن ينقل صوت أوكرانيا وحقيقتها إلى ملايين العرب، محولاً لبنان إلى منصة انطلاق حيوية للثقافة الأوكرانية نحو العالم العربي بأسره.
بقلم: الباحثة أندريانا بيلا (باحثة أولى في دائرة الدبلوماسية العامة والاتصالات بوزارة الخارجية الأوكرانية، وخبيرة في الدبلوماسية الثقافية والعامة)
مصدر النص: مقالة "القوة الناعمة في زمن الحرب: عن الدبلوماسية العامة لأوكرانيا في الجمهورية اللبنانية" المنشورة في "حولية الدبلوماسية الثقافية للعام 2023".

