كتب ستانيسلاف ليتفينوف
في عالم تتقاطع فيه السياسة بالثقافة، يبرز الفيلم الوثائقي كأداة ناعمة لكنها فائقة التأثير في بناء صورة الأمم وكسب تعاطف الشعوب. يقدم المخرج ستانيسلاف ليتفينوف في مقاله نموذجاً عملياً لهذه الأداة من خلال ثلاث لوحات سينمائية وثائقية أبدعها بالتعاون مع السفير الدبلوماسي إيغور أوستاش، هي: "بوندي، أو عودة بوهدان فيسولوفسكي" (2014)، و"لبنان الأوكراني" (2019)، و"غريغوري سكوفورودا. أيها العالم، أنا قادم إليك!" (2022).
"لبنان الأوكراني": رؤية جوية للجمال
لم يكن فيلم "لبنان الأوكراني" مجرد فيلم، بل كان خيطاً آخر يضاف إلى نسيج العلاقات الثقافية المتشابكة بين البلدين. ويكشف ليتفينوف عن تأثير الفيلم البصري العميق، مستشهداً برد فعل الكاتب اللبناني عماد الدين رائف – الذي ترجم العديد من الأعمال الأوكرانية إلى العربية – حيث لاحظ أن "مخرج الفيلم يتحول إلى أحد أبطاله". انتقل الفيلم من الشاشة إلى الفعل الإنساني، حيث نظمت عروض خيرية له في إطار مبادرة "أصدقاء لبنان" لدعم المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، مما يؤكد دور الفن كوسيلة للتضامن الإنساني. كما أودع الفيلم رسمياً للأرشفة الدائمة في الأرشيف المرئي والإلكتروني المركزي في حزيران/ يونيو 2023، ليصبح وثيقة تاريخية متاحة للأجيال القادمة.
عندما تلتقي الفلسفة الأوكرانية بالصوفية الشرقية
يقدم فيلم "غريغوري سكوفورودا. أيها العالم، أنا قادم إليك!" نموذجاً أكثر تعقيداً لكيفية استخدام الفيلم الوثائقي لتعميق الحوار الثقافي والفلسفي. جاء الفيلم كمكمل مرئي لمشروع ترجمة أعمال الفيلسوف الأوكراني إلى العربية بمناسبة ذكرى ميلاده الـ300، والتي أنجزها المترجم عماد الدين رائف. ويشير ليتفينوف إلى أن أحد أهم عناصر الفيلم هو الترجمة الاحترافية للعربية الفصحى التي أنجزها رائف، مما جعل الفيلم موجهاً بشكل مباشر إلى جمهور يزيد عن 400 مليون ناطق بالعربية.
ويكشف المخرج عن طبقات أخرى من الذكاء الثقافي في الفيلم:
الربط الجغرافي: صورت مشاهد رئيسية في متحف سكوفورودا في بلدة تشورنوخي، التي تقع قرب قرية غيراسيميفكا المذكورة في فيلم "لبنان الأوكراني" والتي زارها الكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة، مما يخلق خيطاً سردياً يربط التاريخين الأوكراني واللبناني.
الحوار الحضاري: يوضح مقدم الفيلم السفير أوستاش فلسفة سكوفورودا ويشير إلى تشابهها مع التصوف السائد في ثقافات الشرق، وهي ملاحظة تجذب انتباه المشاهد العربي وتجعله يشعر بقرب فكري من هذا التراث الأوكراني.
القيمة الأرشيفية: يضم الفيلم لقطات حصرية للمخطوطات الأصلية لسكوفورودا وأول كاتب لسيرته، ميخايلو كوفالينسكي، بالإضافة إلى الطبعات الأولى من أعماله وموسيقاه، والتي تم تصويرها بالتعاون مع مكتبة فيرنادسكي الوطنية.
يخلص المخرج ستانيسلاف ليتفينوف من خلال هذه النماذج إلى أن التعاون الإبداعي بين الفنان والدبلوماسي ينتج أدوات ثقافية فريدة. فالفيلم الوثائقي، بصفته فناً قائماً على الوثيقة والحقيقة، يمتلك قدرة هائلة على تحطيم الصور النمطية وبناء تصورات إيجابية. إنه ليس مجرد تسجيل للأحداث، بل هو جسر عاطفي وفكري بين الثقافات، وأداة دبلوماسية فعالة تثبت أن صورة بلد ما يمكن بناؤها بإتقان عبر عدسة الكاميرا بقدر ما تُبنى عبر طاولة المفاوضات.
بقلم: المخرج ستانيسلاف ليتفينوف (ماجستير في تنمية الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، خبير في الصندوق الثقافي الأوكراني، ومخرج مشاريع سفارة أوكرانيا في الجمهورية اللبنانية 2017-2022)
مصدر النص: مقالة "الفيلم الوثائقي كأداة فعالة في الدبلوماسية الثقافية" المنشورة في "حولية الدبلوماسية الثقافية للعام 2023".
