"إنسان – قصة من حياة امرأة" هي باكورة أعمال الكاتبة الأوكرانية أُولْهَا (أولغا) يوليانيفنا كوبيليانسكا (1863-1942) بالأوكرانية، وأول نص يحمل هموم المرأة ويدافع عن حقوقها وفق رؤية نسوية حديثة في بوكوفينيا التي كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. وتبصر الترجمة العربية لهذا العمل النور قريبا عن "دار المصور العربي" في بيروت، بتقديم من الشاعرة البوكوفينية سفيتلانا كيريليوك، ومرفقة بملحق عن حياة الكاتبة ونضالها النسوي.
بعد المدرسة الابتدائية الألمانية حيث تعلمت العزف على البيانو، لم تتخلَّ أولها عن أحلامها في مواصلة تعليمها، وهو كان أمرًا متعذرًا على الفتيات في ذلك الوقت، لذلك دأبت على الدراسة بمفردها حيث استعارت الكتب واستخدمت كتب أشقائها المدرسية، واستمعت إلى نقاشاتهم، وقرأت كثيرًا. بدأت تهتم بقضايا المرأة تحررها. كانت أولى محاولاتها الأدبية تدوين مذكراتها (بالألمانية)، وكتبت قصائد بين الحين والآخر (بالبولندية والألمانية)، ومقالات نثرية. بعد محاولات شتّى، أعادت أولها، سنة 1886، إنتاج قصتها القصيرة الأولى، التي كانت قد كتبتها بالألمانية بعنوان "تَزَوّجَتْ" وعالجت فيها وضع المرأة المثقفة في مجتمعها. وقد شكّل ظهور هذه القصة حملت عنوان "إنسان" باللغة الأوكرانية، بداية مرحلة جديدة من النثر النفسي الأوكراني، حيث تُطرح فيها قضايا وأفكار جديدة، لاسيما التحرر والنسوية. فإلى جانب عالم الرجال الراسخ والمألوف، تظهر المرأة رؤيتها الشخصية المتكاملة للعالم، منطلقة من عالمها الداخلي الغني، متمتعة بعقل منفتح، وقلب صادق، وإرادة قوية، وهي تطالب بحقها في السعادة.
كتبت أولها قصتها بتأثير مباشر من ناتاليا إيفانيفنا كوبرينسكا (1855-1920)، وهي كاتبة من رائدات الحركة النسوية المنظمة في أوكرانيا. شاركت في تأسيس "جمعية النساء الروسيات" سنة 1884، وهي أولى المنظمات النسوية في البلاد. ونشرت كتاب "الإكليل الأول" سنة 1887، وهو أول كتاب لعدة كاتبات يعتنقن فكرة المساواة بين الجنسين، ودافعت في أعمالها عن حق المرأة في التعلم. فبوحي من كوبرينسكا تبلورت صورة المرأة المثقفة التي تُناضل من أجل الإنسان ومكانته في ذهن الكاتبة الناشئة. وقد رسخت أولها في قصتها فكرة ضرورة نضال المرأة من أجل حقوقها في التعلم والعمل وفي المساواة مع الرجل. لكن هذه الفكرة أعمق من ذلك بكثير، حيث نظرت إلى مشكلة تحرر المرأة من منظور مكانة الفرد في المجتمع بشكل عام. ورأت أنه من الضروري تهيئة الظروف الملائمة لها، وتغيير النظام الاجتماعي حتى يشعر كل شخص، وخاصة المرأة، بأنه فرد مدرك، يجد مكانه ويحقق ذاته في الحياة.
وبذلك تكون كوبيليانسكا، في قصتها "إنسان" قد طوّرت موضوعًا جديدًا في النثر الأوكراني، عبر عرض مصير فتاة متعلمة لا تستطيع التكيف مع انعدام روحانية البيئة البرجوازية. وبتجسيدها نموذج المرأة الجديدة، تجد نفسها خارج المجتمع، لأن آراءها وأفكارها ليست غير مقبولة فحسب، بل معادية أيضًا لمجتمع يُحدد الرجال معنى الحياة فيه. تتحدى أولها بذلك الأخلاق الاجتماعية القائمة على الكذب والنفاق والدناءة الروحية. وعبر إيمانها بمبادئ الحب والاحترام المتبادلين، ترفض النموذج السائد للزواج بدون حب، وتكشف عن أمراض المجتمع والعنف والزيف والنفاق.
أولها وليسا أوكراينكا
إثر انتقال عائلتها من قرية ديمكا، للعيش في العاصمة البوكوفينية تشيرنيفتسي، التي كانت مركزًا للتقدميين والتنويريين، إيجابًا على تطور نظرة الكاتبة التقدمية للعالم. هناك اطلعت على أعمال الكاتبة المناهضة للعبودية ماركو فوفتشوك (الاسم الأدبي للكاتبة ماريا فيلينسكا. 1833-1907)، والناشط السياسي والكاتب ميخايلو بافليك (1853-1915)، والكاتب البارز إيفان فرانكو (1856-1916)، وكبير الشعراء الأوكران تاراس شيفتشينكو (1814-1861). أسر عالم الأدب كوبيليانسكا وكانت مفتونة بأعمال شيفتشينكو لدرجة أنها حفظت الكثير من قصائده عن ظهر قلب.
دعت الشاعرة الأوكرانية الكبيرة ليسيا أوكراينكا (1871-1913) أولها لزيارتها في زيليني هاي بمنطقة بولتافا، وذلك بعد تنامي شهرتها. وبعد عامين، حلّت أوكراينكا ضيفةً على كوبيليانسكا في تشيرنيفتسي. لعبت أوكراينكا دورًا هامًا في النمو الإبداعي للكاتبة وقدّرت موهبتها، إذ شبّهت أعمالها الفنية الرفيعة بـ"قمة جبل، وأفق واسع". نشأت علاقة مثمرة بين الكاتبتين، انعكست في أعمالهما ومراسلاتهما، التي أصبحت وثيقة. بتبادل الأفكار والرؤى العالمية، تقف كوبيليانسكا وليسيا أوكراينكا معًا عند أصول نشأة الأدب النسوي في أوكرانيا، راسمتين صورة جديدة للمرأة كامرأة مثقفة، تكافح ظروف طبقية مضطهِدة، مفعمة بروح أنثوية بامتياز ومثال إنساني عالمي. على الرغم من اختفاء رسائل كوبيليانسكا إلى ليسيا أوكراينكا من أرشيفها الخاص، إلا أن رسائل ليسيا إليها لا تزال محفوظة، ولا تزال تُدرّس كمثال فريد على المراسلات النسوية في الأدب الأوكراني. وقد لجأت أوكراينكا إلى كوبيليانسكا بعد وفاة حبيبها سيرغي ميرجينسكي لتخفف عن نفسها حزنها.
في عام 1903، وفي ذروة إبداعها الأدبي، أصيبت كوبيليانسكا بنزلة برد حادة أدت إلى شلل جزئي حرمها من التواصل شخصيًا مع أصدقائها وقرائها، ثم مرض والدها وتوفي وحلت بها ضائقة مالية، فقالت آنذاك: "لم تكن حياتي سعيدة قط، والآن بلغت التعاسة ذروتها". لكن بالرغم من مرضها ووفاة والدها وفقرها، عملت بلا كلل ونشرت أعمالها، وحققت شهرة أدبية مستحقة.
في الذاكرة
في العام 1940، وبعد احتلال الاتحاد السوفياتي منطقة بيسارابيا وشمال بوكوفينا، منحت السلطات البلشفية كوبيليانسكا شهادة فخرية من رئاسة مجلس السوفيات الأعلى لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفاتية. وقُبلت عضويتها في اتحاد الكتاب السوفيات في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه أُجبرت على كتابة تحية خطابية "حزبية" لمناسبة وصول السلطة السوفياتية إلى بوكوفينا في دورية "بوكوفينا الحرة". وفي العام التالي لم يعد بإمكان الكاتبة مغادرة تشيرنيفتسي، حيث أمرت الحكومة الرومانية بنقلها إلى نظارة محكمة عسكرية. لكن الإدارة الرومانية لم تتمكن من تحقيق مرادها، ففي 21 آذار/ مارس 1941 توفيت أولها كوبيليانسكا عن عمر يناهز 78 عامًا. ومنعت السلطات الرومانية الجمهور من توديعها، ولم يحضر جنازتها سوى أقاربها وأصدقائها.
حظيت أولها كوبيليانسكا باهتمام كبير من الأوساط الأدبية في أوكرانيا السوفياتية وأوكرانيا الحديثة، حيث نشرت أعمالها الكاملة في تسعة مجلدات. وحفظت مدينة تشيرنيفتسي ذكرى الكاتبة، حيث حولت السطات منزلها الذي عاشت فيه بين 1929 و1942، إلى متحف أدبي وتذكاري يحمل اسمها في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1944. وقد أعدّ الباحثون العلميون العاملون في المتحف أبحاثًا مهمة حول حياة كوبيليانسكا ومسيرتها الإبداعية، منها: كتاب "نسر الجبل. ذكريات" (1976)، ورواية "كوبيليانسكا" (1983)، وكتاب "حول أولها كوبيليانسكا. مواد جديدة. تأملات. اكتشافات"، (1982)، و"عناوين أولها كوبليانسكا في بوكوفينا" (2006). كما نشروا نص مذكرات أولها كوبيليانسكا في كتاب "كلمات قلب متأثر: مذكرات، سيرة ذاتية، رسائل، مقالات وذكريات" (1982).

