الحجّ إلى شمس مصر: ليسيا أوكراينكا في مصحات حلوان


 عانت الشاعرة الأوكرانية الكبيرة ليسيا أوكراينكا من مرض السل في كليتها اليمنى، فتلقَّت العلاج في مصحات شبه جزيرة القرم ومنطقة القوقاز، حيث وصف لها الأطباء دواءَ "التبيركولين" والزرنيخ. ولكن النتائج كانت محدودة، فنصحوها باستئصال الكلية المصابة. ومع ذلك، أرادت الأديبة أن تجرِّب كل الخيارات المتاحة قبل الخضوع لِمبضع الجراح. وقد أنهكتها المعاناة وأصابها اليأس من الشفاء، حتى وقعت هي وزوجها كليمنت كفيتكا على نشرة دعائية لمصحٍّ في منطقة حلوان بالقرب من القاهرة، الذي كان يحظى بسمعة طيبة بوصفه "المنتجع الرئيس لمرضى الكلى".

تندرج حلوان المعاصرة ضمن التجمُّع الحضاري للقاهرة الكبرى منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن قبل مئة عام فقط، كانت هذه البلدة المصرية واحدة من أشهر المنتجعات العلاجية في العالم. إذ تعود الإشارات إلى وجود تجمُّعات سكنية في هذه المنطقة إلى عام 690 ميلادي. إلا أن المدينة كمصح طبي تدين بتأسيسها للطبيب الألماني ويلهلم رايل بيك، الطبيب الخاص لخديوي مصر إسماعيل باشا. في عام 1868، درس الطبيب الألماني رايل عيون حلوان الكبريتية الحارة ووصف خصائصها العلاجية بدقة، خاصةً للمرضى المصابين بالروماتيزم. وبعد ثلاث سنوات فقط، أي في عام 1871، أصدر إسماعيل باشا مرسومًا بتأسيس منتجع صحي في حلوان، وعيَّن رايل مديرًا له. وفي عام 1872، اكتمل بناء حمامات علاجية مغطاة على الطراز المغاربي في حلوان، استحم فيها الخديوي نفسه. وفيما بعد، شُيِّد في المدينة "الفندق الكبير"، وفي عام 1876، رُبِط المنتجع بالعاصمة القاهرة بخط سكة حديد.

بعد وفاة رايل عام 1879، شهد المشروع فترة من التراجع، إلى أن تولى خديوي مصر الجديد توفيق باشا رعايته وبنى في حلوان قصرًا له. وهكذا تحوَّلت حلوان من بلدة عربية صغيرة على ضفاف النيل إلى مدينة أوروبية عصرية، بشوارع مُخطَّطة بدقة وطرق مُعَبَّدة وشبكة مياه وإضاءة كهربائية. وبعدما أدرك المستوطنون الأجانب من إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة، وكذلك الأثرياء المحليون، جدوى الاستثمار في المدينة -المنتجع، بدؤوا بشراء قطع الأراضي في حلوان لبناء الفيلات. ومع مطلع القرن العشرين، ارتفع عدد سكان المدينة إلى ثمانية آلاف نسمة، وأصبحت في خدمة المصطافين أكثر من عشرة فنادق وكازينو وملعب للتزلج.

في أواخر القرن التاسع عشر، اكتسبت حلوان شعبية إضافية بين الأطباء الأوروبيين والأمريكيين. بفضل الهواء الجاف النقي والشتاء الدافئ، أصبحت حلوان محطة مناخية شعبية، أي مكانًا لقضاء الشتاء لأصحاب الأمراض المزمنة، الذين لا يتحملون البرد والرطوبة في أوطانهم. كان الموسم في حلوان يبدأ في تشرين الأول/ أكتوبر وينتهي عادةً بين آذار/ مارس ونيسان/ أبريل مع بدء موسم الخماسين، أي الرياح الصحراوية التي تهب لمدة 50 يومًا.



بديل أكثر توفيرًا من مصحات القرم والقوقاز

ذاع صيت حلوان في الإمبراطورية الروسية مطلع القرن العشرين. وكانت "فيلا واندا" أولى المصحات التي استقبلت رعايا روسيا القيصرية في مصر. أنشأها الزوجان يوليوش وواندا بيلينسكي من وارسو، اللذان استقرَّا في حلوان عام 1898، حيث اشتريا قطعة أرض وبنيا فندقًا صغيرًا بدأ في استقبال النزلاء للاستشفاء أو لقضاء فصل الشتاء. وقد توفي يوليوش عام 1901 بسبب مرض في الكلى.

سارت الأمور على ما يرام لدى السيدة واندا بيلينسكي، حتى إن مصحَّها كان يَعجُّ بالزوار ولا يتسع لجميع الضيوف في بعض الأحيان. وعلى الرغم من سمعته بكونه "منتجعًا سلافيًا"، إلا أن "فيلا واندا" استقبلت، إضافة إلى البولنديين والأوكرانيين والروس، سياحًا من إنكلترا وفرنسا وألمانيا. وكانت واندا بيلينسكي تعلن عن منشأتها في الصحف الروسية المشهورة، ومن بينها جريدة "كييفليانين" في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1904. وفي كُتيِّبه الصادر عام 1908، وصف طبيب الكلى البطرسبورغي ألكسندر باسيلتسار مزايا حلوان كمنتجع صحي لمرضى الكلى مقارنة بمصحات القرم والقوقاز، كما قدَّم نصائح لكل المسافرين إلى مصر وشاركهم انطباعاته عن الإقامة في "فيلا واندا".

تمتعت "فيلا واندا" كذلك بمزايا تنافسية مع المنشآت الفرنسية والإنجليزية المماثلة بفضل سياسة الأسعار. فالإقامة، وفق نظام الإقامة الشامل، في مصح بيلينسكي كانت تكلِّف 300 فرنك شهريًّا، أي ما عادل 115 روبلًا روسيًا. وفي مقابل هذا المبلغ، كان النزيل يحصل على فطور شهي، وغداء من أربعة أطباق، وعشاء.

وبحسب حسابات الدكتور باسيلتسار، فإن تكلفة قضاء فصل الشتاء في حلوان كانت أقل منها في مصحات القرم والقوقاز. فتكلفة الذهاب والإياب، والإقامة في مصر، والمصروفات الشخصية، كانت تكلِّف المريض حوالي 150 روبلًا شهريًّا، أو 1000 روبل للموسم الواحد، أي لنصف عام، من تشرين الأول/ أكتوبر حتى نيسان/ أبريل. علمًا أن متوسط الراتب الشهري في الإمبراطورية الروسية آنذاك كان يتراوح بين 20 و30 روبلًا.



أكثر الأماكن صحة في العالم

فيما بعد، ظهرت في حلوان مصحات أخرى أسسها رعايا الإمبراطورية الروسية، ففي عام 1907، انتقل إليها الدكتور أليكسي رابينوفيتش. كان رابينوفيتش الابن الثالث لعائلة من تجار الشاي الناجحين من أوديسا. ومثل إخوته، درس أليكسي الطب في برلين، لكنه جُنِّد في الجيش أثناء الحرب الروسية اليابانية. بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، بدأ رابينوفيتش رحلاته حول العالم، ليجد نفسه في النهاية في مصر، حيث اكتشف العيون الكبريتية الحارة في حلوان. وكان على قناعة تامة بأن هذا المنتجع كان "واحدًا من أكثر الأماكن صحة في العالم"، لذا قرر من دون تردد الاستقرار فيها، وافتتاح عيادته الطبية الخاصة، التي أسماها مصح "فيلا كونتيننتال". في هذا المكان بالذات أقامت ليسيا أوكراينكا، حتى أنها ظهرت مع الدكتور رابينوفيتش في صورة جماعية مع نزلاء المصح.

كان مصير الطبيب الوافد من أوديسا مثيرًا للغاية ومأسويًا في آن معًا. فقد تزوج من السيدة نيللي كاتافي، ابنة إحدى أغنى السلالات اليهودية والأكثر نفوذًا في مصر، والتي تنافس على طلب يدها باشوات عثمانيون ولوردات إنكليز. كانت عائلة رابينوفيتش تحظى باحترام كبير في حلوان، حيث كان أليكسي يعالج ويطعم المرضى المحليين غير القادرين على رعاية أنفسهم مجانًا. وفيما بعد، اعتنق الإسلام وغير اسمه إلى "علي". لكن أليكسي/ علي لم يُقدَّر له أن يعيش طويلاً. إذ أدى مرض الزهري، الذي التقطه أثناء خدمته في الجيش، إلى فقدانه عقله. ذات مرة، خلال مشادة حادة مع أحد الأطباء، استل مسدسًا وكاد أن يقتل زميله، وعند عودته إلى مصر من فرنسا، اعتدى على مضيف السفينة. نُقل الدكتور رابينوفيتش إلى عيادة للأمراض النفسية في باريس حيث كان يعمل شقيقه جاك، وهناك توفي عام 1914.

في عام 1908، انتقل إلى حلوان طبيب روسي آخر من أصل ألماني - الدكتور د. ل. غلانتس. بالتعاون مع شريكه في الوطن، مدير مصح المياه المعدنية في خاركوف الدكتور س. ز. رابينوفيتش، أسسا مصحًا جديدًا لمواطنيهما باسمه الرمزي "جيزن" (أي "حياة"). تولى س. رابينوفيتش الترويج التسويقي للمصح بين الأطباء والمرضى الروس، مع الترويج لحلوان في الوقت ذاته بوصفها "أفضل منتجع صحي في العالم للذين لا أمل في شفائهم من أمراض الكلى والرئة والعظام".

احتوى الكتيب والنشرات الدعائية لمصح "حياة"، إضافة إلى قصص مبالغ فيها بعض الشيء عن شفاءات معجزة لمرضى مزمنين، على معلومات مفيدة للمسافرين، مثل جدول زمني للسفن البخارية والقطارات ونصائح عامة من نوعية: ما هي الأشياء التي يجدر اصطحابها في الرحلة، وكيفية الوصول إلى حلوان من الإسكندرية، وحتى كم يجب أن ندفع لحَمَلة الأمتعة في المحطة.

بدأت أسعار الغرف في مصح الدكتور غلانتس من 13 فرنكًا (أو 5 روبلات) في اليوم. وكانت تكلفة الإقامة تُدفع مقدَّمًا لشهر كامل. وعلى عكس مصح السيدة بيلينسكي، كان المريض يحصل مقابل هذا المبلغ، بالإضافة إلى الطعام، على رعاية طبية مستمرة من الأطباء والطاقم الطبي، وبرنامج علاجي فردي، ونظام غذائي شخصي إذا لزم الأمر. علاوة على ذلك، كان احتوى مصح "حياة" على حمامات كبريتية ودش خاص به، وكان يستقبل الضيوف الجدد في ميناء الإسكندرية ومحطة القطار في القاهرة وكلاء يرتدون قبعات موحدة مكتوب عليها "جيزن".

يحتفظ أرشيف مكتبة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية في كييف بنسخة من أحد كتيبات المصح. والأكثر إثارة للاهتمام أنها وصلت إلى الأرشيف من مجموعة دميترو يافورنيتسكي - المؤرخ الأوكراني، وعالم الإثنوغرافيا، والباحث في تاريخ قوزاق زابوريجيا، وأول مدير للمتحف التاريخي في كاتيرينوسلاف. سافر يافورنيتسكي أيضًا إلى مصر عام 1910. في حلوان، التقى بليسيا أوكراينكا وأقام في شقتها في "فيلا كونتيننتال". وكانا يخططان معًا لزيارة المتحف المصري في القاهرة، "لمشاهدة السيدة ذات الوجه الذهبي".



باتومي – القسطنطينية – الإسكندرية

"أرسل زوجي يطلب إجازة، وإذا حصل عليها فسيذهب معي لمدة شهر على الأقل، لأنه يحتاج لإنقاذ حلقه (من المرض)، ومن الواضح أيضًا أنه لا يريد أن يتركني أذهب في هذه الرحلة الطويلة وحدي الآن، على الرغم من أنني اعتدت السفر وحدي، ولكنني الآن، لأقول الحقيقة، عاجزة، وأنا لا أرغب في حمل هذا اللقب رسميًا... لذا، إذا لم تعقنا أي مصيبة، سنغادر في 3 (16) تشرين الثاني/ نوفمبر إلى باتومي (باطوم)، ومن هناك سنسافر بحرًا إلى الإسكندرية، وبعدها سنرى إلى أين، سواء إلى القاهرة أو أبعد من ذلك". هكذا كتبت ليسيا أوكراينكا في رسالة إلى صديقتها ناديا كيبالتشيتش في 28 أيلول/ سبتمبر 1909 من مدينة تيلافي الجورجية، حيث كانت تقيم مع زوجها كليمنت كفيتكا.

كان الطبيب الألماني الشهير جيمس أدولف هو من نصح الأديبة بالعلاج في المناخ الدافئ لمصر. وهكذا، قرر الزوجان كفيتكا التوجه إلى حلوان. حزمّا حقائبهما، وحصلا على جوازي سفر من مكتب حاكم تيفليس (تبليسي) عبر دفع 15 روبلًا لكل منهما، وانطلقا في رحلتهما المنتظرة. لم يكن عليهما القلق بشأن متاعب التأشيرات، إذ لم تكن هناك حاجة في تلك الأيام لتأشيرة أو حتى جواز سفر لزيارة مصر.

في بداية القرن العشرين، كان بإمكان المرء السفر من أوكرانيا إلى أرض الفراعنة على متن سفن شركة "روبيت" (الشركة الروسية للملاحة والنقل البحري) التي كانت أكبر شركة ملاحة روسية في البحر الأسود، ومقرها في أوديسا، والتي تأسست عام 1856. كان خط الإسكندرية أحد أقدم و أهم وجهاتها، حيث كان الحجاج من مختلف أنحاء الإمبراطورية، بما فيهم أوكرانيا، يسافرون عبره إلى الأراضي المقدسة.

في عام 1909، لم يكن بالإمكان وصف الرحلة إلى مصر بأنها اقتصادية، كما أن الأسعار في البلاد نفسها كانت تفوق الأسعار الأوروبية. فتقدّر تذكرة السفينة المباشرة من أوديسا إلى الإسكندرية في درجة الأولى بـ 98 روبلًا، وفي درجة الثانية بـ 67 روبلًا و 50 كوبيكا. أما سعر التذكرة في درجة الثالثة، أي على سطح السفينة من دون طعام، فكان أقل بكثير، وهو 18 روبلًا فقط. كان من الأفضل شراء تذاكر ذهابًا وإيابًا معًا بخصم 20 في المئة. وكانت تذكرة العودة صالحة لمدة 6 أشهر، وهو ما يناسب السياح الذين بقوا في حلوان لقضاء فصل الشتاء. غادرت السفينة ميناء أوديسا كل يوم أحد في الساعة 11:00 صباحًا، ووصلت إلى الإسكندرية يوم الاثنين التالي في منتصف النهار. أثناء الرحلة، كانت السفينة تزور موانئ القسطنطينية (إسطنبول)، والدردنيل، وسميرنا (إزمير)، وبيرايوس (أثينا)، حيث كان بإمكان الركاب النزول للتجول ومشاهدة المعالم المحلية.

غير أن ليسيا أوكراينكا انطلقت في رحلتها على متن سفينة تابعة لشركة أخرى. لقد فكرت بلا شك في إمكانية السفر إلى مصر عبر رحلة مباشرة، لكنها قررت عدم المخاطرة، لأن الطقس البارد الرطب والأمطار في أوديسا قد يتسبب بتدهور حالتها الصحية. لذا، في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1909، صعدت مع زوجها إلى متن "سفينة بخارية ألمانية"، وكانت على الأرجح تابعة لشركة "نورددويتشر لويد" (لويد الألماني الشمالي)، والتي كانت تشغل خطوط الأناضول من باتومي إلى إسطنبول. استغرقت هذه الرحلة عادةً من 4 إلى 5 أيام.

في القسطنطينية، كان على لاريسا (ليسيا) وكليمنتي (كليمنت) أن ينتقلا إلى سفينة "رومانيا" التابعة لشركة "سيرفيشيول ماريتيم رومان" (الخدمة البحرية الرومانية). أعجبت ليسيا أوكراينكا جدًا بالرحلة على متن هذه السفينة لدرجة أنها فضلتها عند سفرها إلى الإسكندرية في السنوات اللاحقة. قبل الصعود على متنها، كان لدى الزوجين متسع من الوقت للتجول في شوارع العاصمة العثمانية.

على مدى أكثر من مئة عام، بالكاد تغيرت نصائح السياح في أدلة السفر عن إسطنبول: كان يُنصح ببدء التعرف إلى المدينة من منطقة "غالاتا"، أي المنطقة المينائية في الجزء الأوروبي من المدينة، لأنه كان المكان الذي تنقل إليه القوارب الركاب من السفن الراسية في مضيق البوسفور. بعد ذلك، كان يُنصح بالصعود إلى منطقة "بيرا" التجارية بواسطة التلفريك الحديث مقابل نصف قرش (20 بارة) أو 4 كوبيكات (هذا التلفريك لا يزال يعمل حتى اليوم)، وزيارة برج غالاتا والتجول في الشارع الرئيس (شارع إستقلال حاليًا). اعتبر دليل شركة "روبيت" الروسية، أن آيا صوفيا هي أبرز معالم القسطنطينية للسياح الأرثوذكس، لأنها كانت أكبر كنيسة مسيحية في العالم وتحفة من العمارة البيزنطية، بناها الإمبراطور جستنيان عام 537 ميلادي، ثم تحولت إلى مسجد بعد الحكم التركي للمدينة عام 1453. وكما هي الحال اليوم، كان لم يكن دخول السياح إلى آيا صوفيا مجانيًا (10 قروش، أو 80 كوبيكا). وكانت زيارة المزارات الإسلامية، مثل المسجد الأزرق أو مسجد سليمان القانوني، أرخص بنصف السعر. في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، كتبت ليسيا أوكراينكا رسالة إلى شقيقتها من ميناء إزمير، وفي 16 منه، وصلت هي وزوجها إلى الإسكندرية.



"مستعمرة الكتّاب الأوكرانيين" في حلوان

كانت هناك حتى خمسة قطارات يوميًا تخرج من الإسكندرية إلى القاهرة، تستغرق الرحلة نحو ثلاث ساعات. عادةً ما كان المسافرون المتجهون إلى حلوان يقضون الليلة في العاصمة المصرية للراحة بعد الرحلة الطويلة والتعرف إلى البلاد عن كثب. كانت الفرنسية هي اللغة الأوروبية الأكثر شيوعًا في مصر في ذلك الوقت، والتي كانت ليسيا أوكراينكا تتقنها بطلاقة: "لا فرق لديّ بين التحدث بالفرنسية أو الروسية تقريبًا". إلى جانب الفرنسية، التي كان معظم أفراد الطبقة المتوسطة في الإمبراطورية الروسية يتقنونها آنذاك، كانت الكاتبة الأوكرانية تتحدث وتكتب بالألمانية بطلاقة، وبشكل متواضع بالإيطالية، كما كانت تقرأ وتترجم من الإنكليزية بدون قاموس. لذا، فقد شعرت براحة تامة وسط مجتمع المغتربين متعددي الثقافات في مصر.

أما أولئك الذين رغبوا في التعمق أكثر في الثقافة والتاريخ، فكان بإمكانهم الاستعانة بترجمان. وقد لعب المرشدون المحليون المترجمون دور الوسيط بين السياح وسكان البلاد. في بعض الحالات، لم يستطع المسافر الذي لا يعرف اللغة العربية الاستغناء عن الترجمان أثناء زيارة المعالم خارج المدن الكبرى، مثل الأقصر أو الفيوم. كانت خدمات الترجمان باهظة، تصل إلى حوالي جنيه مصري واحد في اليوم، أو 10 روبلات للسياح الأوكرانيين. وكان الترجمان ضروريًا في المقام الأول للسياح الذين سعوا لرؤية أكبر قدر ممكن في أقصر وقت. كانوا ينظمون جولات ورحلات إلى أماكن كان من الصعب جدًا على المسافر الذي لا يعرف العربية الوصول إليها بمفرده. ولعشاق الغرابة، كان الترجمان يستطيع تنظيم رحلة إلى الصحراء، عبر استئجار الجمال، وشراء المؤن، والترتيب مع البدو للمبيت في مخيمهم. ولزيارة تكية المولوية في القاهرة ومشاهدة رقصة الدراويش الدوارة الصوفية... في كل ذلك كان وساطة الترجمان إلزامية. وفقًا لدليل بيديكر الإرشادي الناطق بالإنجليزية، تراوحت تكلفة خدمات الترجمان بين 5 و10 شلنات في اليوم، أي حوالي 2.5 إلى 5 روبلات للمسافر الوافد من أوكرانيا الخاضعة للسيطرة الروسية. كما قدم الدليل نصائح للمسافرين حول كيفية التعامل مع الترجمان.

من الجدير بالذكر أنه حتى في ذلك الوقت، كانت هناك صناعة سياحية منظمة في مصر. كان أهم مشغل سياحي في ذلك الوقت، المشغل الأول في العالم، وهو مكتب توماس كوك. استمرت شركة السياحة البريطانية من عام 1841 حتى عام 2019. بالإضافة إلى المكاتب في بريطانيا وأوروبا الغربية، كان للشركة فروع في مصر أيضًا. نصح الدليل الإرشادي الأوديسي "كورير" لعام 1912 بزيارة أهرامات الجيزة "بصحبة شركة كوك، لأنه من الصعب التعامل بمفردك بدون ترجمان مع المرشدين وأصحاب الجمال الذين قد يمزقونك إربًا". لم تتأخر ليسيا أوكراينكا وزوجها في القاهرة، بل انطلقا على الفور إلى حلوان، حيث كانت القطارات تسير نهارًا تقريبًا كل ساعة.

أمضى كليمنت كفيتكا أقل من شهر في مصر، لأنهم في العمل لم يوافقوا على منحه إجازة مطولة للعلاج. ومع ذلك، حتى في هذه المدة القصيرة، تحسنت حالته الصحية بشكل ملحوظ. بينما واصلت ليسيا أوكراينكا استئجار شقق للإقامة الطويلة. في البداية، أقامت في منتجع "أنطونيو"، الذي سكنه بشكل رئيس بريطانيون ومتحدثون آخرون بالإنكليزية، لكن الأجواء السائدة هناك لم تعجبها، حيث وصفتها بأنها "غير اجتماعية أو متزمتة". كما أنه لم يكن لدى "أنطونيو" طاقم طبي خاص ولم يقدم أي رعاية طبية. من الطبيعي أن المسافرين، عند وصولهم للمرة الأولى إلى بلد غير مألوف، يميلون إلى التواجد مع مواطنيهم، وهذا بالضبط ما كانت تبحث عنه ليسيا الوحيدة.

كانت الأسعار في "فيلا كونتيننتال" للدكتور رابينوفيتش أعلى بـ 15-30 روبلًا منها في منتجع الإقامة الإنكليزي، لكن الطعام كان أفضل، وكان الإشراف الطبي مشمولًا في تكلفة الإقامة. كان هناك أوكرانيون أيضًا، لكنهم كانوا "أوكرانيي الجنسية لا القومية"، كما كتبت ليسيا. من الواضح أن الحديث كان عن أولئك المولودين في أوكرانيا، الذين كان الموسكوفيين يُطلقون عليهم آنذاك وبازدراء اسم "مالوروسيين"، أي أبناء روسيا الصغرى (أوكرانيا) في مقابل "روسيا العظمى". ومع ذلك، فقد ذكرت أن فيكتوريا ابنة الناشر الأوكراني يفغيني تشيكالينكو كانت قد أقامت في هذه "الفيلا" قبلها. في رسالتها إلى بوريس غرينتشينكو، كانت تتأمل حتى في إنشاء "مستعمرة للكتاب الأوكرانيين" في حلوان، يعيشون معًا في فيلا مستأجرة.



في الإمبراطورية الروسية، كان بإمكان ممثلي الطبقات الغنية فقط تحمل تكاليف رحلة مماثلة. كان زوج ليسيا أوكراينكا، كليمنت، بصفته قاضي تحقيق في محكمة تيلافي، يتقاضى 65 روبلًا شهريًا. وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت أعلى من متوسط الأجر، لكنه مع ذلك لم يكن كافيًا. كانت والدتها ليسيا، أي الكاتبة الأوكرانية أولينا كوساتش، تساعدها بالأموال للعلاج. وفي المنتجع المصري نفسه، وجدت ليسيا أوكراينكا فرصًا لكسب دخل إضافي. كتبت عن ذلك في رسالة إلى شقيقتها أولينا بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير، إذ كانت تكسب المال من ترجمة عقود الامتياز من الروسية إلى الفرنسية والألمانية. وفقًا لكلامها، استطاعت في غضون 3 أيام وهي في الفراش أن تكسب 15 روبلًا، أكثر من نصف متوسط الراتب الشهري للعامل في أوكرانيا. 

في تلك الأيام، لم يكن المسافرون يحملون مبالغ كبيرة معهم في الرحلة، لأن المبلغ المسموح به لإخراجه كان محدودًا. آنذاك، كان الناس عادةً يلجؤون إلى البنك في بلدهم ويحصلون على شيك سياحي أو صك اعتماد، وهو وثيقة مالية يلتزم بموجبها البنك في دولة أخرى بدفع مبلغ معين بالعملة المحلية، يتم خصمه من حساب العميل. كان الأكثر ملاءمة هو شراء العملة الأجنبية قبل بدء الرحلة، أو أخذ كمية من الروبلات القيصرية الذهبية والفضية، التي كانت متداولة في محال صرافة العملات الأجنبية. إذا كان سعر الصرف اليوم يتحدّث كل ثانية، فإنه قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن يعدّل أكثر من مرة واحدة في السنة، لأن العالم كان لا يزال يعتمد على قاعدة الذهب. أما بالنسبة لمصر، كما هي الحال في أوروبا عمومًا، فكان الفرنك الفرنسي وحدة العملة المشتركة. كان متداولاً في مصر على قدم المساواة مع العملات المحلية والعثمانية، ومعظم الأسعار كانت مدوّنة بالفرنك للإيضاح. كان سعر الفرنك مقابل الروبل ثابتًا ويساوي 37 كوبيك، أو 2.66 فرنك للروبل. لذلك، ليس من المستغرب أن جميع الأسعار والحسابات للسياح من الإمبراطورية الروسية كانت بالروبلات والفرنكات لأن سعر الصرف بقي مستقرًا.

من الصعب تحديد عدد الأوكرانيين الذين زاروا مصر آنذاك، وحلوان على وجه الخصوص. لكن يمكن الجزم بأن ليسيا أوكراينكا لم تكن فقط من روّج لهذا الوجهة السياحية في أوكرانيا، بل أيضًا خلّدت اسمها في الأدب المحلي. فقد كانت تأتي "حاجّة إلى شمس مصر"، إلى الأهرامات وأبو الهول، التي تجولت حولها مع زوجها، تقريبًا كل شتاء، حتى وفاتها في عام 1913. وحتى في سنوات ما بعد الحرب، ارتبط اسم هذه البلدة المصرية، لدى الأوكرانيين، بليسيا أوكراينكا وبمصحات مرضى الكلى لمدة طويلة.


المصدر: الحجّ إلى شمس مصر: ليسيا أوكراينكا في مصحات حلوان، عماد الدين رائف/ الميادين، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.