في قصيدته «تشامخ أشجار النخيل» التي نظمــها بالأوكرانيــة في منطقة الرميل البيروتية، سنة 1898، يرســم أغاتانــغل يفيموفيتش كريمسكي، الذي لم يتجاوز الخامســـة والعشرين من عمره يومئذ ملامح الحنين إلى وطــنه، يقــول: «أشجار النخيـــل والغار والسرو، تتشامخ إلى السماء/ تحيــط بها أزهار رائعة/ وأشجار النارنج في الغـــابة العجيبة/ وأنا أتمايل بنشــوة الثمالة/ وعطر الربيع، ثم تحــين مني التفاتة/ فأرى هناك في ظل شجرة نخيل/ سنبلة جـــودار متواضعة، تنحني بتثاقل وتهمس: يا ابن بلدي، إننا غريــبان في هذا الفــردوس/ ما الذي أتى بنا إلى هذا المكان؟». إلا أن تلــك الغربة في «الفـــردوس البيروتي»، لم تشبه غربة موته في منفاه في كازاخستان، التي اقتيــد إليها، بعد اعتقاله في العام 1941، إبان الحقبة السوفياتية، ليتوفى بعد فترة قصيرة، حيث لم تعرف عائلته مصيره حتى انتهاء تلك الحقبة، بعد نصف قرن.
وارتبطت حياة العالم اللغوي كريمسكي (1871 1942) بدراسة التاريخ العربي والإسلامي وكذلك اللغات السامية وتاريخ الشعوب الناطقة بالتركية، لا سيما تتار القرم، الذي ينتمي إليهم عن طريق والده. وكانت رحلة كريمسكي قد انطلقت إلى سوريا ولبنان بعد وقت قصير على تخرجه من «معهد لازاريفسكي للغات الشرقية» في موسكو القيصرية، حيث أمضى سنتين (1896- 1898) من أجل إتقان اللغة العربية. وقد استغل كريمسكي تلك الفرصة لجمع المواد العلمية اللازمة لبحوثه القادمة في التاريخ العربي والإسلامي والدراسات القرآنية. ومن ثم عمل نحو عشرين سنة في «لازاريفسكي»، وحصل على لقب بروفسور، حيث كان يلقي المحاضرات حول اللغة العربية وآدابها وتاريخ الإسلام.
وأصدر كريمــسكي العديد من البحوث العلمية منها «دراسة تطــور الصوفيــة حتى نهايــة القرن الثالث الهجري» في العام 1895، و«محاضرات حول القــرآن الكريم» في العام 1902، و«تأريخ الإسلام» في ثلاثة مجلــدات بين العامين 1903 و1904، و«تأريخ تركيا وآدابــها» في مجلــدين، بين العامين 1910 و1916، و«تأريخ العرب والأدب العــربي» في ثلاثة مجــلدات خلال الفترة نفسها، و«تأريــخ فارس وآدابهــا وحكــمة الدروشة الصــوفية» في ثلاثة مجلدات بين العامــين 1909 و1917، و«نظامي ومعاصروه» في العام 1891. ذلك بالإضــافة إلى مجمــوعة رســائله «البيــروتية»، التي جمــعت في كتــاب وأخذت طريقــها إلى النــشر بالعربيــة على يــد الزميــل مسعود ضاهر (ترجمة وتحقيق)، من تقــديم إيرينــا سميليانســكايا تحت عنــوان «بــيروت وجــبل لبنان على مشــارف القــرن العــشرين».
وقد شارك كريمسكي في «الحــركة القومــية» في أوكرانيا، وأيّد بعد «ثورة أكتوبر» في العام 1917 فكرة استـــقلال أوكرانيا. وفي عام 1918 أصبح عضوا عاملا في «أكاديمية العلوم الأوكرانــية»، وترأس حتى سنة نفيه أحد الأقسام في جامعة كييـــف. وفي فتــرة عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، تعرض لملاحقة السلطات باعتباره من «القوميــين البرجوازيـــين».
الرسائل البيروتية
على الرغم من أن تلك الرسائل لم تعتبر نموذجاً أدبيا مميزاً، إلا أن أهميتها تكمن في تضمين كريمسكي لها كماً كبيراً من الاستنتاجات التاريخية التي رصد تطورها وخواتيمها في بحوثه اللاحقة، بالإضافة إلى تحليله الأمين لمظاهر الحياة اليومية في بيروت ذلك الزمان. وتلك الرسائل الخاصة، كانت لها أهميتها لدى كريمسكي الذي أرسل في إحداها يقول لأخ له: «لا تتلف رسائلي البيروتية بل حافظ عليها. فلست لأدون فيها مذكراتي، بل أيضاً كل ما يلفت نظري سأذكره في رسائلي»، لافتاً إلى أنه «عندما أعود إلى روسيا سأستعيد الرسائل منك لأقرأها من جديد، وحينئذ سأتذكر أشياء لم أدونها في الرسائل». ونظراً لاهتمام كريمسكي بالجانب الثقافي والتربوي أكثر من سواه، تضمنت رسائله إشارات هامة حول الأوضاع الثقافية لبيروت وجبل لبنان في أواخر القرن التاسع عشر. فوصف مدرسة «زهرة الإحسان»، التي عمل فيها كمدرّس للغة الروسية، بشكل تفصيلي خلال إقامته في بيروت وذلك لارتباطه الوثيق بمعلمات تلك المدرسة الأرثوذكسية، التي كانت تساعدها «الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية»، وترسل إليها بالمعلمات الروسيات، بالإضافة إلى معلمات عربيات من فلسطين بشكل خاص. وقد توقف الباحث الأب حنا سعيد كلداني، في كتابه «المسيحية المعاصرة في الأردن وفلسطين» (1993)، بالتفصيل على تأسيس «الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية» سنة 1882، وأهدافها، وتطورها، ومشاريعها، ومدارسها المنتشرة في سوريا وفلسطين ولبنان والأردن، والتي بلغ عددها 114. ولعل التجربة الشخصية لناسك الشحرور ميخائيل نعيمة، في مدرستي بسكنتا والناصرة، التي خصص لها مساحة في الجزء الأول من كتابه «سبعون»، بالإضافة إلى استعراضه لها في كتابه «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، تعطي فكرة واضحة عن أهمية تلك المدارس وعملها. ذلك بالإضافة إلى عمل الباحث الدكتور الياس زين، من أميون الكورانية، على دراسة حول تلك المدارس وانتشارها في شمال لبنان، وهو يعمل على توسيعها حالياً. وتجدر الإشارة هنا، إلى البحث القيم الذي أسهم به الباحث حنا أبو حنا تحت عنوان «طلائع النهضة في فلسطين - خريجو المدارس الروسية 1862- 1914» (2005)، حول تلك المدارس التي لم تبخل روسيا القيصرية عليها بخيرة علمائها اللغويين ومدرسيها.
كما وضمن كريمسكي رسائله إشارات كثيرة تصف أجور البريد وانتظام العمل فيه داخل بيروت وفي جبل لبنان، كما تتضمن أجور النقل بالعربات الخاصة، والتاكسي، والقطار، والبواخر، وأجور فنادق بيروت، والغرف المفروشة، ونفقات المدارس، وأسعار الطعام والسلع الاستهلاكية الأساسية. كذلك وصف أسعار العملات الأجنبية على الساحة البيروتية، وإقبال الناس على العملات الذهبية والفضية أكثر من إقبالهم على العملات الورقية، وإمكانية تحويل الشيكات المالية عبر بنوك بيروت. وسجلت الرسائل نماذج حية من اللوحات الاجتماعية المعاشة في بيروت، وجبل لبنان. فقد تناول بالدراسة المقتضبة أحياناً والمفصلة أحياناً أخرى نماذج من أوضاع الطبقة الفقيرة في بيروت، ومقدار مداخيلها مع اعتمادها على أموال المغتربين، وعلاقة الأهل بالأولاد، وأنواع المآكل التي يتناولها الفقراء، والمصاريف الشهرية التي تنفقها عائلة متوسطة الدخل أو الفقيرة المعدمة. وقدم نماذج عديدة عن التسوّل كحرفة ذات أصول وتقاليد دقيقة. وقدم ملاحظات هامة حول الصدامات الطائفية وجرائم القتل في بيروت، والاستخدام الدائم للسلاح في جميع المناسبات. كما وصـــف لوحات رائعة حول الموسيقى القروية والرقصات الفولكلورية الشعبية، ووصفاً دقيقاً لأوضاع المرأة الشرقية.
كريمسكي، الذي استقر عند عائلة عطايا الأرثوذكسية في بيروت، وجد صعوبة في الفهم في أول شهر له، وكان في كثير من الأحيان يضطر لكتابة السؤال على ورقة للحصول على الإجابة. حتى إنه عبّر عن الخوف من أنه لن يتعلم أبدا التكلم بلغة جديدة (أي اللهجة اللبنانية)، «لأنها بعيدة جدا عن الأدبية». وبعد شهر من إقامته كتب أنه بدأ يفهم «الكثير من العربية الحديثة حتى عندما يتحدثون بســرعة، حيث بدأت الأذن بالاعتياد على التمييز بين أصوات الكلام». وكان كريمسكي مولعاً جدا ببيروت ومعظم ردود فعله عنها كانـــت عبارات من البهــجة، فكتـــب مرة «بيروت رائعة في جميع الأوقات، إنها أجمـــل من كل المدن الشــرقية التي شاهدها». وقال مازحا: «إنه لو كانت أرضيات الغرف في بيروت خشـــبية وغير مصنوعة من الحجر، ولو وجدت مواقد للتدفئــة (ضــد الرطوبة)، لكانت الجنة بحد ذاتها. القسطنطينية جميلة من البحـــر، ولكن قبيحة في الداخل، أما بيروت، فجميلة ونظيفة من الداخل أيــضاً، وهي ليســت كغيرها من المدن».
ووصف بيروت بأنها «غارقة في المروج الخضراء والحدائق والحقول، وإلى الغرب من الرميل خارج نطاق المدينة، يمتد شريط فضفاض من الرمال تقابلها المساحة الخضراء والخصبة. وإلى المساحات الخضراء المحيطة والبحر هناك المنطقة الرملية الجميلة جدا». ودعا كريمسكي رائحة الزهور في لبنان بـ «المخدرة»، معتـــبراً أنه لم يكن مرة واحدة قادرا على جمع مثل تلك الباقات من الزهور المذهــلة من المروج، بحيث لا يمكن غض بصر العينين، «غالبا ما كنت أفكر، من أين لي هذه السعادة الغامرة؟ لماذا جئت إلى هذا البلد الرائع؟». ولم يخف ابن الخامسة والعشرين في رسائله رغبته في أن تكون أسرته الأوكرانية كلها معه، «لكي تشق طريقها بين بساتين الخوخ أو الغابات أو المروج الفاخرة، التي تنمو عليها أشجار النخيل البيروتية».
المصدر: جريدة السفير، 16 كانون الثاني 2012