حكاية إعادة إحياء دورية عالم الشرق

صباح صيفي آخر في العاصمة الأوكرانية كييف، يقودني سيراً على قدميّ عبر الشارع الرئيس في المدينة "خريشاتيك" باتجاه "ساحة أوروبا"، عليّ أن انتقل إلى الجهة المقابلة من الشارع عبر ممر تحت أرضي فور وصولي إلى "ساحة الاستقلال"، هناك يحتشد باعة التذكاريات والورود. إلى اليمين أستلم شارع غروهيفسكي. المبنى الرابع، تحتل جزءاً منه "أكاديمية العلوم"، حيث يقع على الطابق الثاني "معهد الدراسات الشرقية"، وإدارة تحرير فصلية "عالم الشرق".
في العدد الأخير من المجلة، مقالة بالأوكرانية بقلم أستاذة اللغة العربية في "جامعة كييف الحكومية" الينا خوميتسكا عن إحياء الذكرى الـ125 لولادة ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة. ذلك لا يفاجئ فقد شاركت الباحثة الشابة قبل سنتين في كشف الستارة عن تمثال الأديب اللبناني الكبير في مدينة بولتافا الأوكرانية التي تعلم فيها نعيمة شاباً.
فلنعد إلى الوراء، إلى ربع قرن خلا، ولنراجع مع المستشرق الأوكراني فاليري ريبالكين. الخطوات الأولى التي أرست معالم الدراسات الشرقية في أوكرانيا الحديثة. يروي ريبالكين تلك الحكاية في "عالم الشرق" (العدد الثالث، 2008) . يقول: "لأكثر من سنة قبل تأسيس معهد الدراسات الشرقية في كييف، حدثت مناسبة سعيدة، أذ التقيت بمؤسسه المستقبلي البروفيسور أوميليان بريتساك. كان آنذاك في كييف وقد عرفنا إلى بعضنا البعض مدير معهد اللغويات آنذاك الأكاديمي فيتالي روسانيفسكي. ومن بين أمور كثيرة تطرق لها نقاش أومليان مع إدارة أكاديمية العلوم، طرح فكرة إنشاء معهد جديد، يركز على بحث مسائل الاستشراق. وقد كان افتتاح معهد كهذا أمراً موضوعياً لأكثر من سبب، ولا يمكن استبداله بتدابير تلطيفية كإنشاء قسم للدراسات الشرقية في معهد اللسانيات مثلاً".
ريبالكين، وهو عالم موسوي، له باع طويلة في الدراسات الشرقية، ولد سنة 1952 في قرية كوتينكوفو (محافظة كيروفوغراد)، وقد ترجم معاني القرآن إلى الأوكرانية، كما ترجم "ألف ليلة وليلة"، وألف كتاباً بالروسية بعنوان "علم اللغة العربية الكلاسيكي" إلى جانب العديد من الكتب الأخرى حول الحضارة والثقافة واللغة العربية. وقد لاحظ ريبالكين شغف بريتساك الذي عرف عن كثب، أكثر من غيره حجم المعضلة، في ذلك اللقاء سنة 1990، حين وضع بوضوح أولويات تأسيس المعهد الجديد.
تحدث بريتساك مازحاً عن ثلاثة حيتان – ركائز، ستعتمد عليها المؤسسة التعليمية الفتية: الكادرات المتخصصة، المكتبة العلمية الخاصة، والدورية المتخصصة التي ستعالج قضايا الدراسات الشرقية. في ما يتعلق بـ"الحوت" الأول، بطبيعة الحال طرأت على الفور صعوبات حقيقية، ففي أوكرانيا لم يتم إعداد متخصصين بالدراسات الشرقية. "كان علينا جمعهم من كل مكان، وبالتدريج إعداد الكادرات المتخصصة لدينا. وكذلك في ما يتعلق بالمكتبة العلمية الخاصة، فهي لم تُجمع في عام أو عامين، وتجدر الإشارة إلى أن نواتها الكتبية تشكلت من محتوى القسم العربي – الإيراني في أكاديمية العلوم، الذي كان بنتيجة إعادة التنظيم الهيكلي قد حط رحاله في مكتبة البحوث الأكاديمية لمعهد اللغويات. وقد رحّب الأكاديمي روسانيسكي بإحالة تلك الكتب إلى معهد الدراسات الشرقية، الحديث النشأة"، وفق ريبالكين.

"سخيدني سفيت"

"الحوت" الأخير، كان المجلة. وقد رفض أومليان رفضاً قاطعاً أن تأسيس مجلة جديدة تعالج "قضايا الدراسات الشرقية"، وكان منذ البداية مع فكرة إعادة إحياء مجلة كانت تطبع بين العامين 1927 و1931، ثم تم القضاء عليها، مثلها مثل جميع الدراسات الشرقية في تلك الحقبة. وبطبيعة الحال كان يتحدث عن دورية "عالم الشرق". ("سخيدني سفيت" – بالأوكرانية)
كيف كان البروفيسور بريتساك يتصور العملية الإجرائية لإعادة إحياء الدورية آنذاك؟
يذكر ريبالكين عدداً من التفاصيل. التي تلخص لمسيرة إحياء الاستشراق بشكل عام، والذي شكلت المجلة الفصلية نافذة إنتاجه. رأى بريتساك أن على الدورية في أعدادها الأولى التركيز على استمراريتها كسلف لتلك التي تمت تصفيتها، ولذلك عرض نشر قائمة كاملة بالموضوعات التي نشرت في الحقبة الأولى، بما يعبر عن التوجهات العلمية الأيديولوجية للاستمرارية، وقد لخص تلك التوجهات في مقالته الافتتاحية كرئيس تحرير للدورية المعاد إحياؤها.
كما أولى رئيس التحرير أهمية كبيرة للتصميم الخارجي للمطبوعة، وأعرب عن اعتقاده بأن من الممكن استيحاء تصميم الغلاف من أغلفة عشرينات القرن الماضي. وقد عمل على إخراج الغلاف فنانون ومصممون، أبدعوا عدداً كبيراً من التصاميم المقترحة. وقد ناقشت هيئة التحرير وإدارته تلك التصاميم في اجتماع موسع في المعهد. في النهاية، كانت الكلمة الأخير لبريتساك، الذي راعي بأكبر قدر ممكن وجهات النظر المختلفة للزملاء.


"فليتعلموا الأوكرانية!"

انتقل بريتساك إلى العمل على محتوى المجلة، وفق السمات المميزة للدراسات الشرقية الأوكرانية الجديدة. قبل كل شيء، أصر على أن تكون كل المواد المنشور باللغة الأوكرانية، مع ملخص إلزامي بالإنكليزية، لذلك تمت ترجمة المواد إلى الأوكرانية، ومنها، مواد المستعرب الأميركي ياروسلاف ستستكيفيتش من الإنكليزية، وعالم الصينيات المسكوبي ميخائيل سوفرونوف من الروسية. إلا أنه واجه ملاحظات من زملائه فالسير على هذا النحو سيحد من وصول المقالات إلى قراء كثر محتملين، لا يعرفون الأوكرانية. وكان جوابه دائما "فليتعلموا اللغة الأوكرانية!".
ولكي تكون نتائج الدراسات الشرقية للعلماء الأوكرانيين متاحة في الخارج، روّج بريتساك لفكرة أخرى، وهي الدورية الإنكليزية. إلا أن ذلك المشروع، ولأسباب مختلفة لم يكتب له أن يبصر النور، ومع مرور الوقت توصل بريتساك إلى حقيقة أن تنشر "عالم الشرق" كاستثناء، عدداً من المقالات بالإنكليزية والروسية. لكن حصة تلك المقالات من مجموع المحتوى تكاد لا تذكر، فيما مادتها العلمية لا غبار عليها.
وفي ما يتعلق بمحتوى الدورية، رأى أوميليان أن عليها أن تعكس المواضيع البحثية في المعهد. ومع الألفية الجديدة بدأت حصة المواضيع البحثية الاستشراقية الكلاسيكية تنخفض تدريجياً، ويعود ذلك على الأقل إلى ثلاثة أسباب: أولاً، أن بريتساك العائد آنذاك من الولايات المتحدة لم يكن بمقدوره إجراء عملية مراقبة فعالية لخطة الأعداد المقبلة، ثانياً، التلاشي التدريجي لنشاط عدد من الدوريات التي تعالج القضايا السياسية والاجتماعية المعاصرة، ومنها "نذير الشرق الأدنى". ثالثاً، التغير الجزئي لتوجهات المواضيع العلمية في المعهد، نحو البحوث النوعية والتطبيقية.
ووفقاً لرغباته أعيد نشر عدد من المقالات التي تم نشرها في "عالم الشرق" القديمة، والتي لم تفقد أهميتها. لكن تجب ملاحظة أن الدورية لم تعمل على الانتشار في الأوساط العلمية الشعبية، فلم تحتل حيز مطبوعات الترجمة الفنية لأفضل نماذج شعرية أو نثرية، عند شعوب الشرق. ومن الواضح أن تلك الترجمات احتلت حيزاً في مطبوعات أخرى، مثل مجلة "فيسفيت". وقد غدت محفظة الإعداد في الدورية أكثر سماكة بفضل المواد العلمية للأجيال الشابة من المستشرقين الأوكرانيين، الذين نموا في سنوات الاستقلال.

وحدة الأجيال

أولى بريتساك أهمية استثنائية لجودة المواد المنشورة، وعمل بنفسه على تدقيق النصوص. ورفض عدداً كبيراً من المقالات، معتبراً أن مستواها متدن، أو أنها غير مهنية. كما أنه أعاد عدداً كبيراً من المقالات إلى كتابها لاستكمالها ومراجعتها، حتى أن بعضها أعيد في مرحلة التنضيد والإخراج. لذلك، وعلى الرغم من أن أجندة العدد الأول من "عالم الشرق" وضعت في العام 1991، إلا أنه لم يصدر قبل العام 1993. وكدليل على وحدة أجيال مختلفة من المستشرقين، وللحفاظ على التراث العلمي للأسلاف، اعتبر بريتساك أنه من الضروري نشر السير العلمية الذاتية لكبار المستشرقين الأوكرانيين، والمواد التي لم يستطيعوا نشرها في حياتهم. وهذا التقليد مستمر في المجلة حتى اليوم، بدءا من نشر السيرة العلمية للمستشرق الكبير مدير تحرير "عالم الشرق" يوري كوتشوبيه (العدد الثاني، 1993).
وقد نشرت المجلة في أعدادها اللاحقة جانباً من أعمال بريتساك بين العامين 1981 و1994، وسيرة البروفيسور كوفالوفسكي (العدد الأول للعام 1996). ففي الذكرى المئوية لولادته، تم للمرة الأولى نشر بحثه العلمي "العلاقات مع الشرق والاستشراق في كييف وبلاد الدنيبر العليا". ومنذ ذلك الحين باتت المجلة تنشر بشكل منتظم مواد مختلفة عن الاستشراق في أنحاء أوكرانيا.
بطبيعة الحال، أولى بريتساك أهمية كبيرة لأعمال أستاذه أغاتانغل كريمسكي، العالم الذي يحمل "معهد الدراسات الشرقية" اسمه. وقد ضمّن العدد الأول من مجلة "عالم الشرق" مواد ومذكرات ومقالات، تبلغ نحو ثلثه، عن مؤسس الدراسات الشرقية الأوكرانية كريمسكي بتوقيع علماء معروفين، بالإضافة إلى بريتساك، مثل إيرينا سميليانسكايا، وبوريس تشوكوف، وولف بيليس، وياريما بولوتنيوك وغيرهم.
والسمة المميزة للأعداد الأولى، كما يذكر ريبالكين، كانت الانخراط الواعي لرئيس التحرير في عداد الكتاب المعروفين من روسيا الاتحادية ودول أخرى. فعلى سبيل المثال صبّت نتاجات علماء كبار في العددين الأول والثاني للعام 1994، ومنهم، أ. دافيدوفيتش، وأ. كوليسنيكوف، وس. كلاشتورني، وم. سوفرونوف، وي. ستيتكوفيتش، ول. توغوشيفا. وساهم هذا النهج في خلق مستوى عال لمجلة تتناول قضايا علمية نادرة، وهيبة علمية بسرعة قياسية.
بالإضافة إلى ذلك اعتنى برتساك بأعمدة "الوقائع والمعلومات"، و"التعليقات"، التي أراد لها كأكاديمي أن تعكس على نحو كاف نشاط الحياة العلمية في الدراسات الشرقية في أوكرانيا وخارجها، وأراد من خلالها إدخال القارئ في الأحداث المهنية الهامة. وقد دعم هذا التوجه في المجلة، ومع ذلك، يرى ريبالكين أن تلك الأبواب كان يمكن أن تكون أكثر حيوية. ويشدد على أن المبادئ التي استرشد بها بريتساك لإعادة إحياء مجلة "عالم الشرق"، لا تزال مستمرة. فهو منحها حيويته الكاملة. فإذا كانت المجلة قد استمرت في سني ما قبل الحرب الكونية الثانية لخمس سنوات فقط، فها هي اليوم تكاد تبلغ ربع قرن من الزمن وباتت تعكس واقع الدراسات الشرقية في أوكرانيا. وهي تستضيف على صفحاتها مع كل عدد علماء أوكرانيين جدداً كانوا لا يزالون على مقاعد الدراسة عندما تنبأ بريتساك "نأمل أن نعيد إحياء عالم الشرق، وكسابقتها أن تجد مناصريها.. رحلة سعيدة". وبالفعل تستمر تلك الرحلة، بأقلام وجهود جديدة ومنها ألينا خوميتسكا التي، إى جانب كتاباتها في الدراسات الشرقية، وتعليمها اللغة العربية للطلاب، ترأس المركز المصري للغة العربية في جامعة كييف الحكومية التي تحمل اسم الشاعر تاراس شيفتشينكو.