«لبنان، تلك البلاد الفردوسية، يحكي عنها نشيد الأنشاد»، بهذه الكلمات يبدأ رائد الاستشراق الأوكراني أغاتانغل يوفيموفيتش كريمسكي قصيدته «على جبال لبنان»، التي كتبها في قرية الشوير مساء 15 تموز/ يوليو 1897. القصيدة تبدو كحلم عاشه العالم اللغوي الشاب، برفقة سفر نشيد الإنشاد الذي رافقه في رحلته، فتلمس معانيه في الطبيعة الرائعة من حوله، وكأن الآيات تجسدت أمامه على سفح صنين. يقول في قصيدته:
العبائر الفوّاحة تتنفّس هنا،
والخضرةُ تضجُّ بالحياة،
الهالُ يتراقص مع الطيب،
والناردين مع الزعفران.
والمرّ مع القرفة
تزهر في الجنائن
ومن لبنان – الجبل تصل همهمة
يتبعها زفير البرد الصافي.
تتنهّد اليمامة في الجنينة،
وتتراقص أشجار التين وسط الخضرة
وعناقيد العنب تحبلُ بالنور.
في الشتاء
أمي الحبيبة.. مشيتُ مع الجبل،
كأنه الثلج.. وكأني لا أشعرُ به،
الشمسُ مشرقةٌ والزهورُ تتفتح..
أمي، وكأن الصقيع قد ولّى.
ابنتي.. أراكِ قد وقعت في الغرام،
فهنا البرد قارس..
أما في قلبك فقد حلّ الصيف،
وفيه تتفتّح الزهور.
في الصيف
صخورٌ، شجراتُ أرز.. المساءُ يقترب،
وأنا أقفُ حزينة.
تناديني الدربُ.. آه، أأذهب؟
أأرحلُ إلى المحبوب؟
ظلٌ جبليٌ ينحدرُ في الوديان،
ظلٌ ذهبي،
يماثلُ الشمس وهي تغطس في البحر.
حبيبي! أين أنت؟ أين؟
حلّتِ العتمة، والثعالبُ تعوي..
والريحُ كريح الشتاء.
نظرتُ بكلتا عينيّ على اتساعهما،
ولا أثرَ للمحبوب.
هذه القصيدة، إلى جانب معظم أعمال كريمسكي نامت طويلاً في سبات قسري، منذ غادر بيروت بحراً إلى أوديسا، فكادت أن تشبه مصيره التعس، حيث قضى في أحد معسكرات الاعتقال السوفياتية سنة 1941 وحيداً، بعيداً عن زهرة الجودار الأوكرانية التي كان يناجيها في ليالي رحلته اللبنانية بين العامين 1896 و1898.
إلا أنّ القدر أفرج عن بعض أعمال كريمسكي في العام 1973، اعترافاً بمئات الكتب والمقالات في العلوم الشرقية، التي كتبها بلغته الأم وبالروسية. ومن الآثار المهمة رسائله إلى أهله من بيروت والشوير، وقد ترجمت بشكل مجتزأ إلى العربية على الرغم من أن الأستاذ يوسف عطالله قد عرّبها، وطبعت في العام 1985 بتصدير للمستشرقة السوفياتية إيرينا سيمليانسكايا، وبتقديم من الزميل مسعود ضاهر، الذي اعتبر، لسبب ما، أنها لا تحمل قيمة أدبية! ومن الرسائل التي حُرم القارئ العربي من الاطلاع عليها رسالة أرسلها أغاتانغل كريمسكي من الشوير إلى أخيه يوفيم يوفيموفيتش، مساء 13 أيلول/سبتمبر 1897، أي بعد شهرين من كتابته قصيدة «على جبال لبنان»، وكان بالفعل يتأبط سفر نشيد الإنشاد بالأوكرانية، بقلم الكاتب والشاعر الأوكراني بانتيليمون ألكسندروفيتش كوليش (1819-1897). وأعتقد أن مسرحة نشيد الإنشاد بقلم توفيق الحكيم سنة 1940، كما يظهر، هي أقرب ما كتب بالعربية إلى ترجمة كوليش الشعرية.
يقول كريمسكي في رسالته:
«خيّم القيظ علينا عشرين يوماً، أفترض أنه ليس كحرّ ديارنا في آب، لكن على أي حال كانت الحرارة مرتفعة. لذلك قلما تجرأت على تجاوز عتبة المنزل. أما اليوم، فقد دعاني أصحاب البيت إلى سيران (نزهة) نحو جبل دير ما الياس، حيث نبع عين صرفد. شاركتهم النزهة فتناولت معهم طعام الغداء.
بعد النزهة كانت الأمسية رائعة في الشوير. يا لهذا المساء! أنا فوق سطح المنزل، وهو مكان رائع للتمشي، وأنا، آمل ما حييت ألّا أنسى الدقائق، بل الساعات التي أقضيها هنا.. لديّ ترجمة أوكرانية لنشيد الإنشاد بقلم كوليش، وأنا بلا إرادة مني أتذكر أشعاره دائما:
ها هو ذا وراء جدارنا يصيح:
انهضي يا حبيبتي، أقبلي..
انقطع المطر وزينت وجه الأرض الزهور،
وأوان الغناء قد حان،
وسجع اليمامة يتردّد في أرضنا،
أخرجت التينة ثمارها،
والجو يعبق بأريج الكروم..
آه، لوأمكنك أن ترى كيف تنحبس الحرارة هنا، وكيف تذوب الوهاد أمام ناظريك في الظلال.. وشعاب صنين تتبدد، لعرفت حينذاك كم هي «طبيعية» فكرة تحوّل الإنسان إلى غزال جبلي يضيع ظله في غلس الوديان..
هذا صوت حبيبي، وهو آت
يقفز بين الجبال،
يشبه غزال المروج، وأيل الحقول..
لذلك بدا لي أنه في مكان ما وراء الصخور المعلقة فوق رأسي، أنني أسمع قعقعة، لا هي وقع قدمي إنسان راكض، ولا نقر حوافر غزال، فاسترجعت ما حفظته بخفر:
حبيبتي أقبلي قبل أن يهجرنا النهار،
وتزول الظلال،
فلننطلق إلى سفح المرّ وتل البخور.
ما أجملك يا عروسي، لا عيب فيك..
فلننطلق إلى لبنان».
كم هي زاهية هذه اللوحة هنا، فالبيوت هنا لا أسيجة حديدية لها، بل هي محاطة بفواصل حجرية خفيضة، أما نوافذ البيوت فخشبية بلا زجاج، تزنرها (العربيش) اللبلاب المتسلق.. واللبلاب يتسلق كذلك الأشجار المحيطة بالمنازل، فتضيع معالم البيوت والناس في «سفح المرّ وتل البخور».
أنت جنة مغلقة، ينبوع مختوم،
نافورة يرسم ماؤها الفردوس..
عرسٌ تدلّت فيه العناقيد
ورقصت الزهور والرياحين
من مرّ وناردين
وأشجار البخور...
وما الغاية من ذلك سوى أنه يرسم لوحة لبنان:
هبّي يا ريح الشمال
أقبلي يا ريح الجنوب
أرسلي فوق جّنتي أنفاسك
ليفوح منها العبير
وأنا على يقين أنك لن تختبر كل تلك المشاعر التي تنتابني وأنا أكتب إليك هذه السطور، فمن اللازم أن تحضر بنفسك إلى هنا، إلى لبنان، كي تقع كل كلمة من هذه الكلمات كقطرة ماء صافية في الروح.. قطرة لا يمحى أثرها، كي تستقي من نشيد الإنشاد نفسه عظمة هذا الجبل.
هلمّي نقنص الثعالب،
تلك الثعالب الصغيرة
التي تفسد الكروم،
فكرومنا قد أورقت.
هي لوحة باتت مألوفة لديّ، على السفح تنحدر كروم العنب، إلى جانب غابة ذات ضجيج مكبوت. وتحت، في شعاب الجبل نحو الوادي تتدفق مياه نبع في مجراها. أما في الأعالي فوق الهضاب فينتصب صنين الأبيض.
يتسلل ثعلب إلى كرم عنب، يختار بأنفه العنقود الأكثر اتساقاً، عنقود العسل الصافي. ينتزعه من غصينه بفمه، ويبقى الغصين وحيداً.
قبيل غروب الشمس، يرجع أصحاب البيت مارّين بكرومهم، يلاحظون جريمة الثعلب، يزعقون: الله يخرب بيتك... لكنهم يقفون، يتفقّدون العريشة حيث اختفى العنقود... ألم تبق عليها عناقيد أخرى؟ الثعلب اختارها لأنها الأشهى، إن وجدوا عليها عنقوداً آخر فذلك يستحقّ الاحتفال الحقيقي.. الاحتفال بالعنب الأكثر لذة.