وردة اليازجي امرأةٌ صدمت الرّجال

حظيت الشّاعرة اللبنانيّة وردة اليازجي (١٨٣٨ - ١٩٢٤) بمزايا لم تحظ بها امرأة أخرى في القرن التاسع عشر. نشأت وترعرعت في بيت علم وأدب، فوالدها الشيخ ناصيف اليازجي (١٨٠٠ - ١٨٧١)، كان قد نمَّى مواهبها وعلّمها أسس اللغة العربيّة ونظْمَ الشعر ببحوره ومراميه، ذلك في حين لم يكن التعلّم متاحاً للفتيات، بلْ كنّ حبيسات المنازل، وعندما فتُحت أبواب التعلّم لهنّ، لم يكن أمامهنّ سوى مدارس الإرساليّات الأجنبيّة، التي لم تكن لتُعنى بالتّراث الأدبيّ العربيّ وأسسه.

يومَ نظمتْ وردة الشعر صدمت أترابها من الرّجال، فقد كانت قصائدها شعاع نور وسط ظلام الجهل المتراكم، وذلك الشّعاعَ الذي حملتْه فتاة. وكان يفترض، على نطاق واسع آنذاك، أنّ الشعر المنظوم ليس من طبيعة المرأة واهتماماتها. وعند استعادتنا لشعر وردة المنظوم، نتحدّث عن جذوة النّهضة وسبل الحداثة. إذ إنّ الشعر العربيّ التقليديّ يمثّل الموطن الأوّل للّغة نفسها وكنز ثروتها الخلّاقة لدى العرب. فأولئك الذين يختزنون الصوَر الشعريّة في صدورهم كان يتحتّم عليهم أن يعودوا إلى قواعد اللغة الصارمة لإتقانها، والإلمام بالبلاغة بديعاً وعروضاً، قبل بناء الهيكل الرسميّ للقصيدة العربيّة العموديّة. وكان ديوان وردة «حديقة الورد»، الذي نشرتْه في العام ١٨٦٧، إعادة إحياء العصر الذهبيّ لجماليّات الشعر العربيّ وتراثه. وقد شكّل سمة من سمات عصرها، وشرطاً من شروط أسس نهضة الشّعر العربي الحديث. غير أنّ تأريخ الآداب العربيّة الحديثة يركّز أكثر على الشعراء الذّكور ويهمل وردة اليازجي، مع أنّها عاصرتْهم١.

ويمكننا أن نتصوّر لمَ كان من الصّعب على المجتمع البطريركيّ الذّكوريّ تقبّل وردة الشاعرة في ذلك الزّمن. ومع ذلك، يظهر أنّ شخصين على الأقلّ، تحدَّثا عنها ولم يبخساها حقّها: الأكاديميّ الأوكرانيّ أغاتانغل كريمسكي في كتابه التأسيسيّ «تاريخ الأدب العربي الحديث»، والكاتبة الكبيرة ميّ زيادة، التي اعتقدت أنّ راية ريادة الأدب النسائيّ المعقودة لوردة، لم تخترق الحُجب الذكوريّة الكثيفة فحسب، بل دعّمت حقَّ المرأة العربيّة في التحرُّر من القيود على نطاق واسع. لذلك كانت ميّ تدرّس تراث وردة وأدبها في المجالس النسائيّة. ويصادف العام الحاليُّ الذكرى الـ ١٥٠ لنشر ديوان وردة اليازجي «حديقة الورد»، الذي استمرّ لعقود في وجدان كثيرات من النّساء في المشرق العربيّ. فهل يمكننا استغلال هذه المناسبة لإعادة تقديم اليازجي اليوم، عبر عيون أغاتانغل كريمسكي وميّ زيادة؟

وردة المحظوظة

ولدت وردة ناصيف عبد الله اليازجي في بلدة كفرشيما، وتُوفّيتْ في مدينة الإسكندريّة في مصر. ألحقها والدها بأوّل مدرسة للبنات في بيروت، وهي الإرساليّة الإنجيليّة الأميركيّة، فتلقّتْ مبادئ القراءة والكتابة، ثمّ لقّنها أصول الصّرف والنّحو والعروض والقوافي، وأقرأها بعض قصائده. وعملت وردة الشابّة معلمةً في مدارس بيروت، ثمّ بعد زواجها وارتحالها إلى مصر عملت، منذ العام ١٨٩٩، كذلك في مدارس الإسكندريّة، منها: «مدرسة راحيل عطا» زوجة المعلّم بطرس البستاني، و«مدرسة عبد الله الوَتْوات» للموحّدين الدّروز، و«مدرسة سُعدَى كركور» الموسويّة اليهوديّة. وقد تعلّمت اللغة الفرنسيّة خلال عملها.
وأحد أهمّ الشّهود على تلك الحقبة المعلّم بطرس البستاني، الذي ارتقى منبرَ «الجمعيّة السوريّة» في ١٤ كانون الثاني/ يناير ١٨٤٩، محاضراً بعنوان «خطاب تعليم النساء». فقد كان المناخ الاجتماعي ضاغطاً جدّاً على المرأة، وكانت «في حالةٍ يرثى لها من المهانة، لا تُذكر إلّا بالّتحقير، ولم يكن يُسمح لها بأن تظهر أمام الرّجال أو في الأماكن العموميّة». كانت «المرأة المسيحيّة تتمتّع من الحرّيّة بنصيب أوفر من أختها المسلمة، إلّا أنّها أيضًا كانت تخضع لنظام الاحتجاب، وكلتاهما تتساويان بالجهل العام، وتعانيان كثيراً من هضم الحقوق».

لقد تنبّه المعلّم البستاني والشيخ اليازجي وأترابهما باكراً إلى مساوئ هذا الواقع، كما وعيَا أهمّيّة نصرة المرأة، وضرورة رفع الغبن والظّلم اللاحقَين بها. وأقصر السّبل وأيسرها لذلك، هو مكافحة الجهل الذي ترسف فيه، وتمكينها من ارتياد المدارس. فتَح البستاني في خطابه «تعليم النساء» باب الحوار حول الموضوع، وأسّس لعهدٍ جديدٍ من النّضال لتمكين المرأة من نيل أبسط حقوقها. وبالفعل بادر المتنوّرون من الرجال إلى إلحاق بناتهم بأولى المدارس التي فتحتْ أبوابها في بيروت، وكانت وردة إحداهنّ.

ولعلّ سلسلة مقالات بقلم وردة اليازجي نفسها بعد نحو نصف قرن من الزمن تحت عنوان «المرأة الشرقيّة»، خيرُ دليلٍ على الغرس الطيّب الذي تركه والدها الشّيخ ناصيف في جيلٍ متنوّر من النّساء، كانت وردة رائدتَه. فإلى جانب دفاعها عن عروبتها ولغتها، توجّه أنظار نساء الشّرق نحو نساء الغرب، ليلمسن اهتماماتهنّ في الأمور الجدّيّة والبراعة في العلوم والفنون وسائر دوائر النّشاط الإنسانيّ، وتدعوهنّ إلى ترك القشور والنّظر إلى أنّ المرأة الغربيّة على الرّغم من تأنّقها الدّائم تقوم بواجباتها نحو الأسرة والمجتمع واللغة والوطن٢.

تفتّح الورد بعد الرّحيل

يبدو أنّ حال المرأة في الشّرق تبعها الانتقاص من حقّها لا إراديّاً من قبل النقّاد والكتّاب وأصحاب التراجم، فتكاد تكون وردة اليازجي منسيّةً في مصر والشّام، إلّا إذا كان الحديث عن الأسرة اليازجيّة، فتُلحق بأبيها الشيخ ناصيف أو أخيها إبراهيم، على الرغم من أنّ أترابها من الكتّاب والشّعراء الرّجال حظوا بالإضاءة على سيَرهم وأعمالهم وآثارهم. وكي نستشفّ أهمّيّة محور بحثنا وهو تناول كلٍّ من أغاتانغل كريمسكي وميّ زيادة لحياة وردة وشعرها، يمكننا الإشارة إلى مرجع، على سبيل المثال لا الحصر، تناول سيرة وردة اليازجي ونشاطها الثّقافي الأدبيّ، هو الأب لويس شيخو اليسوعيّ، الذي ذكَرها في كتابه «تاريخ الآداب العربيّة»، على عادته في ذكر وفيّات كلّ عام من الأدباء والشعراء، بدءاً من العام ١٨٠٠ إلى العام ١٩٢٥، وكان نصيبها نبذة مقتضبة قال فيها : «وفي أوائل السنة ١٩٢٤، هصرت المنون غصناً من الدوحة اليازجيّة في مصر، نريد بها السيّدة وردة اليازجي ابنة الشيخ ناصيف... أخذت الآداب العربيّة عن والدها فبرعت فيها وصارت تصنّف الرسائل والقصائد في زمن لم يُعهد ببنات جنسها شيء من ذلك. ومن آثار قلمها في «الضياء» مقالة في تعريف المرأة الشرقيّة». وقد ذكر الأب شيخو ثلاثة نماذج من شعرها، وهي ثلاثة أبيات من قصيدة افتتاح ديوانها «حديقة الورد» - بعنوان «رسالة إلى وردة الترك»، وسبعة أبيات من مرثاة البطريرك مكسيموس مظلوم، وبيتان في وداع سليمان بك البستاني لمّا انتخب بعد الدستور عضواً في مجلس النّواب عن بيروت٣. وفي المحصّلة، نرى أن مجموع ما انتقاه الأب شيخو هو عنوان سلسلة مقالات لوردة اليازجي في مجلّة «الضياء» واثنا عشر بيتًا توزّعت بين المراسلات والرّثاء والوداع. وعلى الرّغم من أنّ هذه المحاور هي في صلب التفاعل الاجتماعيّ، إلّا أّن الأب شيخو لم يُشر إلى ذلك.

ولم تحظ وردة، والشاعرات المعاصرات لها، سوى بالإضاءة على نتاجهنّ بعد رحيلهنّ حيث ظهر في العام ١٩٢٩، كتيّب بعنوان «الشعر النسائيّ العصري وشهيرات نجومه»، وفيه مختارات من ديوان وردة اليازجي، احتلّت عشر صفحات منه، إلى جانب قصائد لشاعرات عاصرْنها٤.

حديقة الورد

صدر «حديقة الورد» للمرّة الأولى في بيروت سنة ١٨٦٧، في ٥٨ صفحة من القطع الكبير. ظهر على غلافه «نظم السيّدة وردة بنت المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي عُفي عنها» وفي الطبعة الثانية أضيفت قصائد ممّا نظمتْه بعد الطّبعة الأولى. وأشير إلى أنّها طبعتْ في مطبعة القدّيس جاورجيويس في بيروت سنة ١٨٨٧: «تطلب من إدارة ديوان الفكاهة (حقّ إعادة الطبع محفوظ للنّاظمة)».في تصدير الناشر للديوان يقول: «بسم الله الفتاح. الحمد لله الذي تفرَّد بالعزَّة والجلال. وأفاض مواهبه على النساء كما أفاضها على الرجال. ولذلك رأينا أن ننشر ما وقفنا عليه من أشعارها تنبيهاً لأمثالها على اقتفاء آثارها. فنقول وبالله التوفيق». ولا يوجد أيّ توقيع تحت هذا التصدير، كما أنّ المتكلّم على عادة النّشر في ذلك الزمان الذي يفترض أنّه اختار من أشعار وردة ما ضمّنه الطبعة الأولى وأضاف إلى الثانية شيئاً ممّا نظمته بينهما، وهي فترة عقدين من الزمن، يتابع مخاطبة القارئ فوق كلّ قصيدة، ومثال ذلك: «قالت في جواب أبيات وردَتْ إليها من وردة بنت المعلّم نقولا الترك الشاعر... وقالت وقد عادت صديقةٌ لها من سفر... وقالت ترثي البطريرك مكسيموس مظلوم حين تُوفّي بالإسكندرية سنة ١٨٥٥».

وجدير بالذّكر أنّ الدّيوان طُبع بهذه الصيغة ثلاث مرّات٥، حيث لا عناوين للقصائد إنّما تصديرٌ بسطر واحد أو سطرين. وقد اختتمت الطّبعة الثّالثة (القاهرة، ١٩١٤) بقصيدة جاء في تصديرها «وقالت تمدح الأميرة نظلة خانم أخت خديوي مصر وقد قدِمت إلى لبنان سنة ١٨٩٤». وتنتهي أشعار وردة اليازجي في الصّفحة ٥٤ من الدّيوان، حيث يقول مصدّر الديوان «هذا ما استطعنا جمعه في هذا الدّيوان من نظم باكورة هذا الزّمان. ولمّا كان يُعدُّ من نفائس هذا العصر أقبل عليه الشّعراء فزيّنوه بتقاريظ عديدة أدرجناها في الطّبع حسب ترتيب ورودها من أصحابها». ويدرج الناشر ما ذكَره عدد من الشّعراء نظماً عن ديوان السيّدة وردة على خمس صفحات ( ص ٥٤ - ٥٨) .ضمّ ديوان «حديقة الورد» بطبعته الثّالثة والأخيرة في حياة وردة ٧٩ قصيدة وقطعة شعريّة، تراوحت أبياتها بين بيتين لأصغرها و٣٢ بيتاّ لأطْولها. ووردة في ديوانها شاعرة مناسبات، على قوّة لغتها وتطلّع عصرها إلى التجديد، فهي شكلاً لم تغادر المألوف من أغراض الشعر السائدة الذي يتنوّع موضوعيّاً بين الإطراء والغزَل والرّثاء والتّأريخ، والمناسبات من احتفالٍ بزواج وتنصير وترحيب، وتُهيمن عليه الطّلاوة اللفظيّة، وبساطة المحتوى كما كان سائداً في عصرها. وفي الديوان قصائد عديدة في رثاء الرّاحلين من أهلها، ممّا رشّحها لتلقّب بخنساء العصر، حيث رثت أقاربها ووالدها وأشقّاءها وشقيقتها، وابنيها، الذين ماتوا جميعاً في حياتها. كما تتضمّن قصائدها ذَمّ الجهل، والدعوة إلى العلم، والفخر بعروبتها، ومقاصد أخرى. ومجموع عدد الأبيات التي ضمّها الديوان ٧٩٠ بيتاً، وقد التزمت وردة بتفعيلات بحور الشعر الأكثر رواجاً في قصائد الشعراء المجايلين لها (٧٥ قطعة وقصيدة)، واستخدمت المجزوء في أربع قصائد، ولم تستخدم المشطورات والمخلّعات.

وقد جاءت القصائد والقطع الشعريّة في ديوانها على النّحو الآتي: في التّأريخ لحادثة أو لوفاة ١٤ قصيدة، في التقريظ لكتاب أو ديوان ٤، في الرثاء ١٥، في المجاملات الاجتماعيّة ١٠، في المديح ٩، وفي المراسلات والمنادمات ٢٧ قصيدة. ونلحظ هنا أنّ الرّثاء الذي قيل إنّه صبغ شعر وردة احتلّ حيّزاً مهمّاً منها، حيث إنّ أطول قصائدها كانت في المراثي. وبذلك يحتلّ الرّثاء ٣٢٠ من أصل ٧٩٠ بيتاً. أمّا باقي الأغراض الشعريّة فقد جاءت كالآتي: في المراسلات ٢٢٩ بيتاً، والمديح مئة، والمجاملات ٨٣، والتأريخ ٣٤ وفي التأريخ ٢٤ بيتاً.

كريمسكي يدافع عن وردة

وصل أغاتانغل كريمسكي إلى بيروت بحراً في أواخر تشرين الأوّل/ أكتوبر ١٨٩٦، وتركها أواسط أيّار /مايو ١٨٩٨، وقد قضى بينها وبين جبل لبنان نحو سنة ونصف السنة باحثاً منقّباً في العلوم اللغويّة واللهجيّة والإنثروبولوجيا والإثنوغرافيا. وفي بيروت ولدَت مجموعته الشعريّة الأولى «سعف النخيل» وقصصه الاجتماعيّة الأولى «قصص بيروتيّة»، كما تسنّى له فيها أن يجمع موادّ مؤلّفه التأسيسيّ «تاريخ الأدب العربي الحديث»، الذي طُبع بعد عمله الطّويل عليه، فخرج مادّة منهجيّة مرجعيّة في مضمونه٦.

بعد ذكْره أعمالَ الشيخ ناصيف اليازجي ومُعاصريه، يتحدّث كريمسكي٧، عن أشخاصٍ حملوا الإرث الكبير لهذا العالِم الموسوعي، يقول «كان الشيخ ناصيف اليازجي قد جمع حوله حلقة متينة من الأدباء الشباب، الذين تميّزوا عن سواهم من الأدباء البيارتة بالالتزام بمعاييره الأدبيّة. وقد تألّف معظم أفراد هذه الحلقة من أقربائه: أولاده وصهره سليمان حدّاد. والشيخ ناصيف الذي كنّ لهم حبّاً جمّاً تلمذهم على يديه فعلّمهم العربيّة الكلاسيكيّة النقيّة. لكنّهم لم يتمكّنوا من معاندة القدَر، الذي خطفهم واحداً تلو الآخر. وانفردت بينهم ابنته الكبرى وردة اليازجي، التي كانت قد ظهرت كشاعرة في حياة أبيها».

وبعدما لحظ كريمسكي مكانة وردة الفتاة في حياة أبيها، يضيف «وردة اليازجي، مثل أخيها الأكبر الراحل، ولدت في لبنان حيث كان أبوها يسكن (سنة ١٨٣٨). تلقّت وردة علومها العامّة لدى المبشّرين الأميركيّين في بيروت، أمّا دراستها الأدبيّة فتتلمذت فيها على يد أبيها نفسه. حين كانت وردة في الثالثة عشرة من عمرها، بدأت تنْظم الشعر مقلّدة في أشعارها أشعارَ أبيها. وفي ستّينيّات القرن التاسع عشرنشرت وردة ديوانها الشعري بعنوان «حديقة الورد»، الذي أعادت طبعه مع إضافات».

ثمّ يشرح كريمسكي للقارئ عن مضمون الديوان، يتابع «إحدى قصائد وردة اليازجي تتضمّن لعباً على الكلام، بما يتلاءم مع منهج أبيها البلاغي، وهي عبارة عن رسالة شعريّة إلى وردة الترك... ولديها كذلك مراسلاتٌ شعريّة مع شاعرة أخرى من تريباتها وهي الشاعرة عائشة تيمور (المولودة في العام ١٨٤٠)، التي تعتبر من أُوليات الكاتبات في الدّيار المصريّة. وتلفت الانتباه هنا المراسلات الشعريّة بين اللبنانيّة المسيحيّة وردة والمصريّة المسلمة عائشة، التي تتضمّن تحيّات على شكل قصائد منمّقة، ومنها قصيدة وردة التي حملت عنوان «بسمة النيل». ومع أنّ هذه القصيدة عبارة عن مجاملات منظومة، إلّا أنّ كلمات وردة لعائشة تترك انطباعاً لطيفاً لدى القارئ إذ تكتنز تشابيه بلاغية مستمدّة من عناصر اللوحات الطبيعية».

ثمّ يبحث كريمسكي عن الصوَر الشعريّة التي تتمظهر فيها الطبيعة في كثير من أشعار وردة اليازجي. يقول: «ويلفت القارئ عنوان إحدى قصائدها «فرح الطبيعة»، فهنا، وبلا أيّ تكلّف، ترسم وردة سعادة حديقة مزهرة تغتسل بمطر صباحيّ، يتشكّل منه جدول جذل ذو لحن مُسكِر. في الواقع، إنّ هذه الصوَر الشعريّة ليست مبتكرة، وعند قراءتها تتبادر إلى الذهن بلا إرادة من القارئ قصيدة «المزهرات» التي نظمها والد وردة في سنوات صباه. ذلك وتكثر أشعار وردة المتعلقة بالأمور العائليّة مثل التهاني والرّثاء...».

ومن المفارقات المهمّة في تناول كريمسكي نتاج وردة اليازجي الشعريّ، دفاعه عنها في وجه المستشرق النّمسوي ألفرد فون كريمر (١٨٢٨ - ١٨٨٩). يقول: «قبل سنة واحدة من نشرها ديوانها الشعريّ حديقة الورد، تزوّجت وردة اليازجي (سنة ١٨٦٦) وانتقلت مع زوجها [فرنسيس شمعون] للعيش في مصر. ويلاحظ أ. فون كريمر بهذا الخصوص، ولا ينسى أن يبثّ سمومه: أعتقد أنّ زواجها لم يترك لها وقت فراغ للإبداع الأدبيّ، وبغضّ الّنظر عن تقييمي لمستواها الشعريّ، فإنّ ذلك ليس مدعاة للأسف أبداً». يردّ كريمسكي فيقول: «لكنّ توقّع كريمر ذاك دحضه صدورُ ديوانها «حديقة الورد»، الذي أعادتْ إصداره بطبعة ثانية بعد عشرين عاماً (في بيروت، سنة ١٨٨٧)، مع إضافة بعض القصائد الجديدة إليه، ومنها مرثاة لابنها الميّت، وقصيدة في ذكرى أخيها الراحل، إلخ. وبعد ربع قرن من الزّمن، صدرت الطبعة الثّالثة للديوان في القاهرة، سنة ١٩١٤. وفي الواقع، كانت هذه الكاتبة مع تقدّمها في السنّ تجد من يقرأ أشعارها دائماً».

مي: وردة فتحت لنا الطريقَ

في مقدّمة كتابها «وردة اليازجي»٨، تقدّر ميّ زيادة وردة وزميلاتها «اللواتي سبقن جيلنا ففتحن لنا الطريق... فبقي علينا أن نستكشف طبيعة المرأة الشرقيّة لنسجّلها في الوجود، ونسعى بعدئذ لإنمائها وصقلها فنبرزها كما هي في جوهرها تحفة وينبوعاً وذخيرة». ثمّ تعرض ميّ بيسْر لحياة الشاعرة وما خبرتْه من أخلاقها. وعن ديوان وردة «حديقة الورد» تضيف: «إنّه الديوان الوحيد الذي طُبع ثلاث مرّات لشاعر معاصر. ففي حديقتها ورود باهتة في اللطف والمجاملة، وأخرى حمراء قانية في المودّة والشوق، والقسم الطّامي هو ورود قاتمة. ورود الفراق والحداد، ورود الرّثاء والنّحيب المبلّلة بدموع العيون المضمّخة بزفرات القلوب».

وكنّا قد خبرنا الورود الباهتة والقاتمة، كما تسمّيها ميّ، إلّا أّنها تفتح العيون على تلك الورود الحمراء القانية، وتدعو القراء إلى قراءة أخرى لديوان «حديقة الورد» على نحو لم تعهده المرأة الشرقيّة قبل وردة اليازجي. ولم يكن بمقدور أحدٍ في ذلك العصر سوى ميّ زيادة أن يفتح العيون على هذا الموضوع المهمّ. فعن النّوع الثاني من ورود الحديقة - أي ورود المودّة والشّوق، تعبّر ميّ عن شكّها المنهجيّ في أن تكون تلك الأشعار التي نظمتْها وردة تتوجّه فيها إلى «صديقة» أو «صاحبة من صويحباتها»، أو إلى «فتاة» بشكل عام! ومن ذلك قول وردة: «علّمتني قولَ النسيب وهجت بي - ما هاج حبّ بثينةٍ بجميلِ».تقول ميّ: «وأرجّح أنّها ككلّ قلب حسّاس تعلّمت ذلك القول من احتياجها إليه، لأنّ الحبّ لغة طبيعيّة لا بدّ أن تستوفي حقّها من الوجود بصورة من الصوَر». وتُدرج ميّ بعضاً من أبيات وردة في هذا السياق معزّزةً طرحها بأنّ المخاطب رجل وليس امرأة. ومنها: ما زال يصبُو إلى ربعٍ أقام به/ قلبٌ له ساقَهُ الشوقُ يشيّعه. تعلّق ميّ: ليس هذا البيت من أجمل أبيات وردة اليازجي ولكنّه أصدقها. وهي وإن أخطرتْنا في العنوان أنّ القصيدة قيلت في «صديقة» فنحن ندرك أنّ منها ما هو موجّه إلى «صديق» وإنّما أخفيت وراء برقع التّأنيث في العنوان مجاراةً لحكم المجتمع الذي كان يقضي على المرأة بكتمان عواطفها حتى في الشّعر. ثم تسأل ميّ سؤالًا استنكاريّاً: أيمكن أن يكون هذا الخطاب لصديقة! وتتابع:

رحل الحبيب وحسن صبري قد رحل
فمتى يعود إلى منازله الأول
وتضيء أرضٌ أظلمت من بعده
وتقرّ عيني باللقا قبل الأجَل؟
يا غائباً والقلب سار بإثره
شوقي مقيمٌ في فؤادي كالجبل
إن كنت غبت عن العيون مهاجراً
فجميل شخصك في فؤادي لم يزل.

أمّا عن كيفيّة سَير القلب في إثر الغائب، وإقامة الشّوق في ذلك القلب - باسم «الفؤاد»، كالجبل، وكيف يذهب القلب ويبقى في آن واحد وفي بيت واحد، فمن الأمور التي لا يعرف أسرارها إلّا الشعراء والعاشقون - كما تقول ميّ. ثمّ تستكمل رحلتها بين دفّتي «حديقة الورد» باحثةً عن العشق المكنون لوردة الأنثى، ذلك العشق الذي ترجمتْه شعراً لكنّه يختفي خلف عنوان «إلى صديقة»
=== 

.Arab Women Writers - A Critical Reference Guide (1873 - 1999), Edited by: Radwa Ashour and others (Cairo: The American university in Cairo press, 2008). Article: «Lebanon - The Pioneers» by Yumna al’-Id. Pages 44 - 45
٢.الضياء، مجلّد السنة ١٩٠٥ - ١٩٠٦، سلسلة مقالات «المرأة الشرقيّة» بقلم وردة اليازجي، الصفحات: ٣٥٧، ٣٩٢، ٤٢٢، ٤٥٣، وما بعدها مجلة «الضياء» (١٨٩٨ - ١٩٠٦) لصاحبها الشيخ إبراهيم اليازجي، هي واحدة من المنابر الثقافية في القرن التاسع عشر، نشرت أفكار التنوير في المجتمع العربي ككل، ومصر على وجه الخصوص. هويّة المجلة «علمية أدبية صحية صناعية»، وكانت تطبعها مطبعة المعارف بشارع الفجالة بالقاهرة، وهي المطبعة التي أسسها نجيب متري سنة ١٨٩٠. وقد عملت منذ بدايتها على ترقية فنّ الطباعة العربية والنهوض بها
٣.انظر: تاريخ الآداب العربية (١٨٠٠ - ١٩٢٥)، الأب لويس شيخو (بيروت: دار المشرق، ط٣: ١٩٩١) ص ص ٤٢١ - ٤٢٢
٤.الشعر النسائي العصري وشهيرات نجومه (القاهرة: مكتبة الوفد لصاحبها محمد محمود - مطبعة الترقي، ١٩٢٩). يقع الكتيّب في ٥٦ صفحة، وجاء على غلافه الخلفي: «الأشعار الواردة في هذه المجموعة مقتبسة من ديوان وردة اليازجي وعائشة عصمت تيمور وأمينة نجيب وملك حفني ناصف وفي صدر كل من هذه المختارات ترجمة الشاعرة، والطبع حسن وقد أحسن الجامع في انتقاء القصائد الواردة في هذه المجموعة ولا شك في أنها من أبلغ المقاطيع التي يتحتم حفظها على طالبات المدارس في جميع الديار التي يتكلّم أبناؤها بلغة الضاد، فنحثّ بنات بلادنا على اقتنائها وحفظ ما فيها»
٥.الطبعة الرابعة والأخيرة من الديوان كانت عن دار مارون عبّود، سنة ١٩٨٤. وقد أتت مطابقة للطبعة الثانية له (بيروت: مطبعة مار جاورجيوس، ١٨٨٧)
٦.للاستزادة انظر: ١٨٩٧ - قصص بيروتية، أ. كريمسكي، دراسة وترجمة عماد الدين رائف (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط١: ٢٠١٧) القسم الأول
٧.تاريخ الأدب العربي الحديث، أ.ي. كريمسكي (موسكو: إدارة تحرير الآداب الشرقية، ١٩٧١). ص ٤٢٦ وما بعدها
٨.انظر: وردة اليازجي، ميّ زيادة (بيروت: مؤسسة نوفل، ط٢: ١٩٨٠)، المقدّمة وص ص: ٢٤ - ٣٩. والكتيّب الذي يقع في ٦٣ صفحة، عبارة عن محاضرة طويلة ألقتها ميّ زيادة في «جمعية الشابات المسيحيّة» بالقاهرة، بتاريخ ١٥ أيّار / مايو ١٩٢٤، ثم نشرتها تباعاً على حلقات في مجلة «المقتطف» في العام نفسه.