قرش بيروت الضائع.. أين هو؟

تردّدتُ خلال السنوات الخمس الماضية على معارض العملات والطوابع البريدية، وقد تعرّفت إلى كثيرين من الهواة الذين نهضوا بهذه الهواية من خلال جهودهم الفردية والجماعيّة، وتُسجّل لهم هذه النهضة محليًا وعربيًا. وكان من أهدافي في كلّ مرّة أن يرتطم نظري بقرش عثماني عليه عبارة "ضُرب في بيروت"، على غرار "صاغ الميري" وهو "ضُرب في القسطنطينيّة"، أو أن أجد ما كان يُسمّى بـ"قرش بيروت"، لكنني لم أوفق.
وقد أكّد لي البعض عدم وجود هذا القرش، ومنهم من عبّر بحدّة كما لو أنني كنت أشكك بمعلوماته، فيما اكتفى البعض الآخر الأقل عددًا والأكثر خبرة وتواضعًا بينهم بالقول "لم أر قرشًا كهذا". بغض النظر عمّا إذا كان قد تضمن نقش "ضُرب في بيروت" أم لا، إلا أنّ "قرش بيروت" كان موجودًا بالفعل، وقد تم التعامل به في المدينة وولايتها على أقل تقدير بين العامين 1896 و1909.. فما الداعي إلى هذا الاعتقاد وأين هو قرش بيروت؟
كانت بيروت بين 1887 ومطلع الحرب العالمية الأولى مركزًا لولاية كبيرة تزيد مساحتها عن ثلاثين ألف كيلومتر مربع، تعاقب عليها أكثر من عشرين واليًا، وكانت تضم ألوية: بيروت، عكا، طرابلس، اللاذقية، ونابلس، فيها عدد كبير من الأقضية ويزد عدد سكانها عن نصف مليون نسمة. وهذه الفترة هي فترة حكم اثنين من سلاطين بني عثمان في العاصمة الأستانة، وهما، السلطان الرابع والثلاثون عبد الحميد الثاني (1876-1919) والخامس والثلاثون محمد الخامس رضا (1909-1918). وقد شهدت المدينة نهضة تجارية وعمرانية وغدت ميناء سوريا الأول ومقصد الشركات والبنوك والتجار في أوروبا والشرق، إلى جانب الإرساليات بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها. واتسمت تلك الفترة بتدهور أوضاع النقد المتداول في السلطنة والاستعاضة في بعض الأحيان عن الذهب والفضة بالنيكل والنحاس والأوراق النقدية، التي واجهت رفضًا من التجار.

كريمسكي شاهدًا


وصل أغاتانغل يوخيموفيتش كريمسكي (1871 – 1942) إلى بيروت من أوديسا بحرًا في الأسبوع الأخير من تشرين الأول/ أكتوبر 1896، في بعثة علمية من "معهد لازاريف للغات الشرقيّة" لإنهاء الشقّ العملي في رسالة ماجستير له حول اللهجات الشامية. وكان المعهد العريق المتخصص بالاستشراق، يحظى بدعم من الحكومة القيصرية للتوغّل أكثر فأكثر في دراسة لهجات سوريا وفلسطين. وقد كانت لبيروت أهمية خاصة مع تزايد الوجود القيصري في ألويتها وفي متصرفية جبل لبنان.
بعد أربعة أشهر من وصوله، كتب كريمسكي بالأوكرانية مجموعة "قصص بيروتية"، تضمنت ملاحظاته الإنثروبولوجية والإثنوغرافية، مع إضاءات على العادات والأعراف وطرق التعامل والطعام والطبخ واللباس، وطرق التخاطب واللهجات المختلفة. وإذا كان بالإمكان جمع كثير من مشاهداته من مصادر مختلفة ومقارنتها، إلا أن قصصه انفردت بمسألتين، الأولى المقارنة بين النظم التعليمية المختلفة في الإرساليات وتقديمها من التلميذ والكتاب وصولًا إلى المدرسة، والثانية هي النظام النقدي المزدوج في بيروت، والحديث عن قرشها بالتفصيل.   
في إحدى قصصه، بعنوان "سليمان في تنورة" على عتبة رأس سنة 1896، ترغب بطلتها يكاترينا إيفانوفنا في أن تحاسب العربجي، الذي أقلّها بين "مدرسة باكورة الإحسان" وقصر سرسق ذهابًا وإيابًا، وكانت قد اتفقت معه على سبعة قروش ونصف القرش للساعة الواحدة، لكنّها قضت ساعة وخمس دقائق. يشرح كريمسكي بقوله: "التعامل بالنقود في سوريا، يتسبب بالصداع لدى الأوروبيين. ففي سوريا (ولايات دمشق وحلب وبيروت ومتصرفية جبل لبنان)، كما في تركيا (السلطنة) كلها، وحدة النقد هي القرش وينقسم القرش إلى أربعين بارة. وعليك ملاحظة أن ما يطلق عليه اسم قرش في سوريا هو غير القرش في العاصمة... حيث يعادل القرش الواحد ثمانية من كوبيكاتنا (الكوبيك جزء من مئة من الروبل). وتلك العملة المعدنية المصكوكة في القسطنطينية، تعتبر معياراً لكل العملات المعدنية الأخرى. فالقرش الفضي الأستاني يعادل ثمانية كوبيكات، وقطعة القرشين تعادل ستة عشر كوبيكاً، وعُشرها من البارات، أي المتليك، يعادل كوبيكين.. وهكذا... القرش البيروتي، يعادل سبعة كوبيكات، أما القرش الدمشقي، مثلاً، فيعادل ثمانية كوبيكات ونصف الكوبيك. لكن، من المؤسف أن المدينتين لا يمكنهما استحداث عملتهما الخاصة وتسميتها باسم مختلف، واحتساب الوحدة النقدية وفق قيمتها الفعلية".

ثم يسترسل كريمسكي في التمهيد لشرح معاناة المسكينة يكاترينا إيفانوفنا: "ذلك أوّل ما يصدم الأوروبي، الذي اعتاد أن تقسم عملته المتحضّرة على أرقام مزدوجة... قرش العاصمة الواحد، كما يقول البيارتة، يعادل قرشاً وخمس بارات. وقطعة القرشين تعادل 2.25 قرشاً محلياً. أما الربع الفضي المجيدي فيعادل خمسة قروش وثلاثين بارة... ووفق ذلك يتم تنظيم جميع الحسابات النقدية هنا. والبيارتة اعتادوا على طبيعة التعامل بالنقد المحلي، ولا يعيرون نقود العاصمة أي اهتمام منذ طفولتهم، أما الأوروبيون، لاسيما أولئك الذين لم تمض فترة طويلة على وجودهم في بيروت، فيلعنون النظام النقدي كله. ويغدو ذلك أكثر صعوبة بكثير بالنسبة إليهم، عندما تكون العملات المعدنية بين أيديهم بلا أرقام مفهومة، بل توجد عليها نقوش غريبة مبهمة".

"الشروق" البيروتي

ويقدّم لنا أغاتانغل كريمسكي وثيقة أخرى كذلك، ففي رسالة له إلى أهله بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1896، يقول: لا ترغب المدن السورية التجاريّة بالتعامل في أسواقها بالقروش القسطنطينية. وفي المدن السورية كبيروت يتداول الناس في الأسواق بعملتهم القديمة المعروفة باسم "شروق". قيمة "الشروق" البيروتي تعادل أقل من ثمانية كوبيكات" (رسائل من سوريا ولبنان 1896-1898، كييف، 1973). إذن لدينا قرش بيروتي، وله اسم خاص به. ولا يمكن على أي حال تجاهل النظام النقدي المزدوج، وقد ذكر الباحثون الفرق في التعامل بين القرش "صاغ الميري" والقرش "الرائج"، ومنهم عيسى إسكندر المعلوف وشارل عيساوي وصقر يوسف صقر، على الرغم من أنّهم لم يسمّوا القرش البيروتي تحديدًا.
ويبقى الشاهد الثاني من حيث الأهميّة بعد كريمسكي ناشر جريدة "الإقبال" البيروتية وصاحبها عبد الباسط الأنسي، ففي كتابه "دليل بيروت" للعام 1909، نشر "جدول النقود العثمانية الرائجة في بندر بيروت"، واضعًا مقياسين واضحين لقطع النقد المتداولة الأول وفق "عملة بيروت" والثاني وفق "صاغ الميري"، وبالتالي تقاس كل القطع النقدية من صغيرها إلى كبيرها أي من "النحاسة" إلى "الليرة" الذهبية بالمقياسين، فالليرة، على سبيل المثال، التي تساوي بعملة بيروت 124 قرشًا و25 بارة تساوي بالأستاني 102 قرشًا وعشرين بارة. إذن، قرش بيروت ليس مقياسًا اعتباريًا، بل كان موجودًا في أسواقها يُتداول به وتقاس عليه العملات وتباع به السلع وتُدفع به أجور الخدمات.


أين قرشنا الأبيض؟

على الرغم من ضرب العملات المعدنية العثمانية في أماكن مختلفة غير العاصمة، ومنها بغداد ومصر وتونس والجزائر وسالونيك وأدرنة وكوسوفو، إلا أن المصادر تخلو من أي معلومة تشير إلى أن بيروت حظيت بذلك. فلم يرد ذكر لذلك عند الباحث الاقتصادي الأستاني خليل أدهم في كتابه الموسوعي "مسكوكات عثمانيه" (قسطنطينيه: محمود بك مطبعه سي، 1334 هـ. 6 أجزاء)، ولا قبله بربع قرن عند الخبير المالي العثماني إسماعيل غالب في كتابه الحائز على رعاية رسميّة "تقويم مسكوكات عثمانيه" (قسطنطينيه: مهران مطبعه سى، 1307 هـ.). فما يسميه كريمسكي "الشروق البيروتي" وعبد الباسط الأنسي "عملة بيروت"، على الرغم من أنّه لا لبس في وجوده والتعامل به، لا يوجد ما يشير إلى أنّه حظي بنقش "ضرب في بيروت".
 ويبدو أنّه بسبب سقوط قيمة النقد المتداول في تلك الفترة وعزوف القسطنطينية عن الفضّة باتجاه النيكل والنحاس وتزايد العملات الأجنبية في بيروت، حمى تجارها أنفسهم بالاحتفاظ بالقرش الفضي للمدينة "الشروق" وذلك حفاظًا على تجارتهم. أي أنّها الحاجة حافظت على قرش بيروت، وكان من القروش الفضّية المتداولة قبل تدهور قيمة النقود. إلا أنّ ذلك فرض يحتاج إلى إثبات، فقرش بيروت، للأسف، لم يحظ ببحث علمي من قبل الباحثين في تاريخ بيروت العثمانيّة، الذين توفرت لهم سبل الوصول إلى أرشيفات إسطنبول لعقود والاطلاع على كنوزها المعرفية، بل مرّوا على النقود المستخدمة بشكل مبهم أحيانًا من دون تفصيل أحيانًا أخرى. وبذلك ضاع "قرشنا الأبيض" الذي يوصينا المثل البيروتي السائر بتخبئته إلى يومنا الأسود.

* نشرت هذه المادة على موقع فضائيّة "الميادين"، بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 2018.