الدوافع الشرقية في ديواني إيفان فرانكو "إزماراغدي" و"القديم والجديد"

كان إيفان فرانكو أوّل الكتّاب الأوكرانيّين الذين ضمّنوا بُنى قصصية شرقيّة (عربيّة) في أعمالهم، وكان استمدّها من الترجمة الألمانيّة الكبيرة لحكايات "ألف ليلة وليلة". وقد كتب قصّتين منظومتين مبنيّتين على أساس تلك البُنى: "خفّا أبي قاسم" و"باسم القفّال"، وباتت هاتان القصّتان من أشهر أعمال الكاتب الشعريّة بالإضافة إلى أنّها من الأشعار المفضّلة لدى الأطفال الأوكرانيّين. كما كتب إيفان فرانكو في العام 1894 مقالة في العلوم الإسلاميّة بعنوان "عن مسألة إرث محمد لدى السلافيين"، التي بحث فيها عمّا يعرفه السلافيّون بالتحديد عن النبي محمد والإسلام وعن مصادر معرفتهم.

أصدر إيفان فرانكو سنة 1898 في مدينة لفيف، مجموعته الشعرية الفلسفيّة "إزماراغدي" (الياء للنسبة، والمعنى الأقرب من السلافيّة القديمة "الأمثولات الأخلاقيّة"). شرح فرانكو في مقدّمة كتابه سبب التسمية، حيث لفت إلى أنّ "إزماراغد اسمٌ أطلق في روس القديمة على مجموعة من المقالات والأمثولات، وهي جزء من الكتابات الأصليّة التي دوّنها آباء مختارون من الكنيسة، تضمّنت أعمالا منتقاة بنزاهة بهدف تكوين دورة عملانيّة كاملة من الأخلاق المسيحيّة". وذكر إيفان فرانكو أنّه كان يرغب، لفترة طويلة، بإصدار كتاب كهذا، راغبًا في أن يشكل النظم الشعري مدخل القارئ إلى رحاب عدد من القصص والأمثولات والتأملات والموضوعات، المستقاة من مصادر مختلفة (مألوفة لكنّها ليست من عندياته، بل شرقيّة وغربيّة)، يؤالف عضويًا في ما بينها، ليجعلها في كليّ واحد. ويضيف الكاتب ما تيسّر له من مختارات تجواله في مسارات تاريخ العالم وأدبه المختلفة. كان فرانكو قد جمعها "حصوة حصوة" لمدة طويلة، وانتقاها بعناية بحيث تكون مناسبة لبناء كتابه، الذي استمر فيه خمسة عشر عامًا، أي خلال الفترة نفسها، التي عمل فيها على كتابة القصتين الشعريتين والمقالة.

في وقت عمله على نظم مجموعة أشعار "إزماراغدي" مرض إيفان فرانكو مرضًا خطيرًا، وبسبب الأذى في عينيه كان مضطرًا إلى قضاء بضعة شهور في غرفة مظلمة، لذلك دعا قسمًا كبيرًا من قصائده باسم "Schmerzenskinder" (أطفال الألم). كان جوهر مجموعة "إزماراغدي" الشعر الوطني المؤطر بقصائد في الأخلاقيّات والأمثولات والأساطير. ويتألف "إزماراغدي" من ستة أقسام، كل منها يمثّل مجموعة شعرية ذات موضوع عام واحد، وهي: "الانحناءات"، "العظات"، "الأمثال"، "الأساطير"، "عبر القرى"، و"إلى البرازيل". يعالج إيفان فرانكو في هذا الديوان جملة من الموضوعات، بدءًا من الأساطير البابليّة القديمة وصولًا إلى موضوع معاصر ساخن، وهو هجرة الفلاحين الأوكرانيّين. وفي كثير من الأحيان كان يتجه نحو الشرق، لاسيما حين يتناول المواضيع والدوافع الإسلاميّة، من دون الكشف عن مصادر تلك الأفكار: "أنا لا أعرض مصادر القصائد المنفردة"، كما يقول، فبرأيه لا يوجد في مجموعته الشعرية ما يمكن أن يدرج في خانة الترجمة. ويحثّ الكاتب النقاد على البحث عن "الأصل، إلى من ينتسب، ومدى تقليد الأصل في النصّ... فهذه المصادر بقيت لمئات وآلاف السنين مفتوحة ومتاحة لجميع العيون السليمة، والبحث عنها ليس مضنيًا"، كما يؤكد فرانكو في أعماله، "ذلك إلى جانب أنّ نسبة العمل الأصيل في النصوص كبيرة، وبذلك أبني على أسس غريبة الأنماط الخاصة بي". في قسم "الأساطير" من كتاب "إزماراغدي"، صاغ إيفان فرانكو بدوافع إسلامية قصيدتين اثنتين هما "أمرٌ ضد الجوع" و"النصر".

يتحدّث فرانكو، في قصيدته "أمرٌ ضد الجوع"، عن فترة المجاعة التي اجتاحت بلاد فارس، في زمن الملك القاسي "بيريس" (على الأرجح يتحدث عن بيروز الأول ابن يزدجرد، الذي كان الملك الثامن عشر في الإمبراطورية الساسانيّة، وحكم بين العامين 459 و484). وكان قد انتشر الجوع في عهده، ولمكافحته أصدر أمرًا (مرسومًا ملكيًّا) بسيطًا للغاية، لكنّه كان شديد الفعاليّة:

"سيذكر الجميع هذا الأمر/
وسيتلونه كما يلي:/
إذا ما مات مسكينٌ ما/
بسبب شدة الجوع/
سآخذ أحدَ الأغنياء في المقابل/
وسأجعله يتضوّر جوعًا حتى الموت/
في زنزانة تحت الأرض".
بطبيعة الحال، بعد صدور هذا الأمر الملكيّ لم يمت أي فقير بسبب الجوع، ولم يتأذّ غني واحد كذلك:
"وجاء الأمرُ بمعجزة/
وبغض النظر عن أسعار الخبز وارتفاعها/
إلا أنّ الأذى لم يلحق بفقير/
وكذلك لم يغد أيّ غنيّ فقيرًا".

في هذه القصيدة يثير إيفان فرانكو قضايا المساواة الاجتماعيّة، وعلى وجه الخصوص التوزيع العادل للموارد وإتاحة الوصول إليها للجميع.
القصيدة الثانية المبنيّة على أساطير شرقية هي بعنوان "النصر"، والشخصيّة الرئيسة فيها الخليفة عبد الملك، الذي كان يحتفل في قصر الكوفة بالانتصار على عدو آخر (الخليفة السابق). وفق الباحث الأوكراني فاليري كورنيتشوك، تظهر في هذه القصيدة مظاهر الاتجاه الروائي في السرد، خاصة عامل المفاجأة، الذي يُعرض عبر تكثيف التفاصيل الفنّية:

"أتى المبعوثون/
بالرأس المُدمّى في حقيبة/
أيّها الملك إنّ عدوّك النهم/
خليفتنا السابق مصعب قد قُتل".

أحدث الخبر متعة كبيرة في نفس عبد الملك، إلا أنّ الشيخ ابن الرومي، الذي تجسّد شخصيته في هذه القصيدة الحكمة والخبرة، رأى أنّ موت العدو لا يبعث على الفرح. وخبّر أنّه شهد بأمّ عينيّه خلال نصف قرن من الزمن، كيف أحضرت رؤوس الحكّام السابقين واحدًا تلو الآخر: العبيدلي والحسين والمختار ومصعب، إلى قاعات القلعة نفسها.
في هذه القطعة الصغيرة من قصيدته، لا يتحدّث إيفان فرانكو، مستخدمًا أسطورة شرقيّة، عن مدى سرعة الحكم البشري ومحدوديّة مدته الزمنيّة، بل عن السلطة والحياة نفسها. ويشير فاليري كورنيتشوك إلى أنّ أحداث نصف قرن من الزمن تتبلور حول بؤرة واحدة في النصّ، تختفي وراء "استعارات المؤامرة.. الشكل المقتضب، وديناميّة السرد يذكّرانا بالرواية الشعريّة حقًا".
في العام 1911، نشرت في مدينة لفيف مجموعة إيفان فرانكو "القديم والجديد"، وهي نسخة موسّعة من ديوان "إزماراغدي". في مقدمتها، كتب إيفان فرانكو: "رأيت أنه من المناسب ألا أجعل هذه الطبعة تكرارًا لما سبقها.. بل كتابًا جديدًا حقًا، سيحظى باهتمام أدبي مستقل عن الكتاب الأول، وذلك مع إضافة بعض محتويات إلى الديوان وزيادة أقسامه من ستة إلى تسعة، قمت بتخصيب بعض الأقسام وإضافة عدد كبير من القصائد الجديدة إليها، والتي كانت قد كتبت عن طريق الصدفة خلال ثلاثين عامًا (بين العامين 1878 و1907).

في هذا الديوان، بالإضافة إلى القصائد المعروفة، نشر إيفان فرانكو قصيدة قصيرة بعنوان "يد يوحنا الدمشقي". شغل القديس المسيحي الشهير يوحنا الدمشقي منصب وزير الخليفة في دمشق، ثم غدا راهبًا وعاش لسنوات في دير مار سابا المقدسي، حيث عكف على دراسة الفلسفة والشعر. في قصيدة إيفان فرانكو يخدم يوحنا الدمشقي في بلاط السلطان في دمشق، ويقدّره السلطان ويحبّه. إلا أنّ بعض رجال حاشية البلاط يدسّون له الدسائس بسبب الحسد، ويريدون تدميره. يحمل الحسّاد إلى السلطان كتابًا زائفًا، يزعمون أنّ يوحنا الدمشقي أرسله إلى الحكام المسيحيّين وفيه أنّه يدعوهم لإرسال جيوشهم إلى دمشق، وأنّه يعد بتسميم السلطان ليضمن النصر لهم. يأمر السلطان بقطع يمين يوحنا، بعد قراءته الكتاب، وينفّذ الحكم، فيهرع يوحنا بيمينه المقطوعة إلى الكنيسة، حيث يصلّي بحرارة لمريم العذراء، فتحدث المعجزة:

"وهكذا أخذت الملكة اليدّ المقطوعة/
ووضعتها على الجرح/
قطع الدم تدفقه من الساعد/
ورّدت اليمين إلى موضعها بلا أذى".
وعندما خرج يوحنا من الكنسية سليمًا، فهم السلطان مدى غشّ حاشية بلاطه له، وتقبله في الخدمة من جديد. بعد ذاك عاش يوحنا الدمشقي فترة طويلة في بلاط السلطان:
"عاقب السلطان العادل المرائين/
وأبرّ القديس من جديد وقرّبه/
بالمحبّة والتقدير أحاطه/
فكانت كلّ أغانيه الجميلة/
مخصصة لملكة السماوات".

لم يقم إيفان فرانكو بإعادة سرد هذه الأساطير، لكن عبر استخدامه الإطار القصصي للأساطير الشرقيّة، كان يخلق أعمالًا فلسفية عميقة، ويضمّنها أفكارًا إنسانيّة عالميّة عن الأمانة والعدالة والمساواة والرحمة.
كما تضمّن الديوانان الشعريان "إزماراغدي" و"القديم والجديد" دوافع شرقيّة أخرى، تحديدًا، مصريّة قديمة وبابليّة وبوذيّة وزرادشتية، منها "الملك المصريّ فول"، و"هاروت وماروت"، و"موت زرادشت". وكل هذه القصائد، حسب تعبير المؤلف، تشكّل "أحجار صغيرة مفردة مخصّصة لبناء هيكل التأليف". مع ذلك، وعلى الرغم من التنوع النوعي والموضوعي، إلا أنّها تشكل معًا كلًّا غير قابل للتجزئة، ما يدلّ على الطبيعة المنهجيّة لعالم إيفان فرانكو الفنّي.

==
الدراسة بقلم: سلولوميا فيفتشر (الباحثة العلمية في "متحف إيفان فرانكو الأدبي التراثي" – لفييف). نشرت للمرة الأولى بالأوكرانية على موقع "الإسلام في أوكرانيا"، بتاريخ 27 آب/ أغسطس 2018. ترجمة عماد الدين رائف.