تحظى أعمال تاراس شيفتشينكو (1814-1861) بأهمية خاصة في أوكرانيا. فهو ليس فقط كبير شعرائها والكاتب والرسّام والناشر، بل كان ناشطاً سياسياً واجتماعياً في آن. لا تخلو مدينة من شارع أو مؤسسة تعليمية باسمه، وتنتشر تماثيله في أنحاء البلاد وتتزين بالزهور في آذار/مارس من كل سنة احتفاءً بمولده. يعتبره الناس أعظم الشعراء ويندر أن تجد من لا يحفظ عن ظهر قلب قصائده، إلا أنّه كان يرى نفسه مجرد "كوبزار" (أي عازف الكوبزا، وهي آلة وتريّة موسيقيّة تشبه العود)، وقد أطلق هذا الاسم على مجموعته الشعريّة الرئيسة. وتكمن رمزية اسم الكوبزار، بأنّ هذا العازف كان من ضمن مهماته أثناء العصور الوسطى استنهاض الناس للدفاع عن بلادهم. وتوزعت سنوات من حياة شيفتشينكو السبع والأربعين على ثلاثة أنواع من البؤس: 24 سنة في الرق والعبودية، وعشر سنوات في المنفى، أما ما تبقى من عمره فتحت مراقبة رجال الأمن.
مناهضة الطغيان
كان تاراس شيفتشينكو عضوًا فاعلًا في "أخوية كيريل وميثوديوس"، وهي منظمة سياسية سرية، أنشئت في العام 1846، ووردت أفكارها الأساسية في "كتاب تكوين الشعب الأوكراني"، الذي يؤكد أن الطغاة والإقطاعيين والملاكين يشكلون ظاهرة غريبة تتنافى وطبيعة الشعب المحبّ للحريّة. وهي ظاهرة مرتبطة بالاحتلال الخارجي. وكان من ضمن أهداف المنظمة: تحرر أوكرانيا الوطني والاجتماعي، القضاء على القيصريّة الروسيّة وعلى نظام العبودية والامتيازات الطبقيّة، وإعلان حرية المعتقد وإعلان وحدة الشعوب السلافيّة في ظل قيادة أخلاقية. كُشفت "أخوية كيريل وميثوديوس" على يد أحد المخبرين في آذار/مارس 1847، وبناء على أمر شخصي من القيصر، أرسل شيفتشينكو مكبّلاً بالأغلال إلى وحدة أورينبورغ العسكرية، حيث كان يفترض أن يقبع تحت رقابة صارمة ممنوعًا من الكتابة أو الرسم. إلا أنّه كان يكتب ويرسم، وفور عودته من منفاه طبع على نفقته الخاصة مشروعَه، وهو كتاب محو الأميّة للكبار.
كان إبداع تاراس شيفتشينكو متمرّدًا مناهضًا للاستبداد، ولم يشعر بأي شفقة تجاه مواطنيه الذين خانوا بلادهم، ولم يرحمهم، فهم لديه "عبيد موسومو الجبين"، و"أذناب بأوسمة ذهبيّة"، و"رعاة خنازير"، و"فريسيون"، و"خدم الأوطان الغريبة". كان شيفتشينكو يبحث بحماسة عن التاريخ الوطني، وقد وصف بحماسة الماضي البطولي للقوزاق (شعوب حرّة لم تخضع للعبودية عاشت بين نهر دنستر غربًا ونهر الكوبان شرقًا) الذين "كانوا يطوفون بالمدافع"، والذين "يعرفون أصول الحكم". ومن كان من المواطنين يتجرأ على التواصل مع شيفتشينكو قد يفقد كل ما لديه، ذلك ما حدث مع ميكولا ميكلوخا، مدير السكك الحديدية في بطرسبورغ. أرسل ميكولا مبلغ 150 روبلًا إلى شيفتشينكو، الذي كان في المنفى آنذاك، فوجد نفسه مطرودًا من عمله ورهن الاعتقال. سرعان ما توفي، أما ابنه نيكولاي ميكلوخو ماكلاي، فقد طرد من جامعته لأن والده أظهر مشاعر وطنيّة أوكرانيّة وكان على علاقة بشيفتشينكو. غادر نيكولاي الإمبراطورية الروسية حين كان في الثامنة عشرة من عمره، وغدا من الرحالة المشهورين حول العالم.
تبسيط اللغة
بدأ شيفتشينكو بنحت اللغة الأوكرانيّة كي تغدو قريبة من اللهجات الشعبيّة، وادعى أنّ الأغنية الأوكرانية الشعبيّة "بلا ذهب، أو صخر، أو لسان متحاذق، لكنّها تصدح بصوت عال وصادق، مثل كلمة الرب". سار على نهج الشاعر إيفان كوتلاريفسكي (1769-1838)، فكتب بين العامين 1794 و1798 بلغة حيّة ملحمة "إينييدا" (Eneida)، محاكيًا الأدب اللاتيني القديم ومصوّرًا قومه من قوزاق زابوروجيا، الذين نهضوا بعدما خسروا "سيتش زابوروجيا"، ليبنوا "سيتش" (مدينة محصّنة) أخرى خلف نهر الدانوب. وقد أكمل درب شيفتشينكو، عدد من كبار الكتّاب والشعراء، الذين وضعوا ركائز اللغة وقواعدها وأزاحوا عنها الغوامض ونشروا نثرهم وشعرهم بأقرب ما يفهمه الناس العاديون، ومنهم إيفان فرانكو، وليسيا أوكراينكا، وأغاتانغل كريمسكي.
أول من تلمس عظمة أشعار شيفتشينكو من العرب كان ميخائيل نعيمة، الذي درس في سيمنار مدينة بولتافا الروحي بين العامين 1906 و1911، وكان يقرأ تلك الأشعار على مقاعد الدراسة. وقبل نحو نصف قرن من الزمن ترجم نعيمة بعض قصائد شيفتشينكو، وبينها قصيدة "الميثاق" أو "العهد" (الغربال الجديد لنعيمة)، وذلك لمناسبة مرور مئة وخمسين سنة على ولادته، وهي الأكثر شهرة وصرامة له. إلا أنّ معظم أشعار شيفتشينكو تزخر بحب الوطن والناس وأسى الغربة والمنفى والحنين. وكنتُ قد نقلت إلى العربية بعض القصائد من ديوان "كوبزار"، لمناسبة الذكرى المئتين على ولادة الشاعر إلا أنّها لم تنشر، وهي تحكي عن المنفى وتوقه إلى الحرّية، ومنها "سلبُ الإرادة قاهرٌ لكنّني/ ما ذقت يومًا طعم هاتيك الإرادة/ يومًا ولا مرّت عليّ...".
إلى مجهولة
من القصائد الشهيرة للشاعر واحدة وجّهها "إلى مجهولة" كتبت في العام 1847، يقول فيها:
الشّمسُ تغربُ، والجبالُ ظلامُ،
والطّير يصمتُ، والحقول نيامُ،
والنّاس قد خلعوا عناء نهارهم،
فنفوسهم جذلى حواها منامُ.
أما أنا.. أرقٌ،
وقلبي نائيًا يسعى إلى وطن كواه هُيامُ
وتطير أفكاري إلى ربى أوكرانيا،
في روضتي الفيحا يطيبُ مقامُ
ويحطّ قلبي تحت ظلٍّ وارفٍ
أنفكُّ من أسري.. يحلُّ سلامُ
**
في عتمة الليل الثقيلة تأسرُ
كبدَ السّما، وأنا إليها ناظرُ،
ذي نجمتي! – هطلت دموعي – نجمتي!
تختالُ فوقي.. والمتيّمُ حائرُ
أكما هنا – فوقي – تشعُّ بموطني؟
عسليّة العينين نحوها تنظر؟
أما أنّها غفلت.. وأرخت جفنها،
وشعاعُ نجمتنا مضاعٌ عابرُ؟!
إن كان ذلك فلتنم نوم الهنا،
لا أتعسَ النجلا مصيري العاثرُ.