أعمال إيفان فرانكو وأغاتانغل كريمسكي مترجمة إلى العربية 1/2

إن العلاقات بين أوكرانيا والشرق الأوسط، ولاسيما لبنان، طويلة الأمد، أبرز معالمها يعود إلى العام 1708 حين طبعت الترجمة العربية للإنجيل في مدينة حلب بهمّة الهيتمان إيفان مازيبا. ولم يمض وقت طويل قبل أن يزور خريج جامعة لفيف، الرحالة فاسيلي غريغوروفيتش بارسكي الشرق الأوسط، مقدمًا وصفًا قيّما للبنان. أواخر القرن التاسع عشر (من تشرين الثاني/ نوفمبر 1896 إلى أيار/ مايو 1898) عاش أغاتانغل كريمسكي في مدينة بيروت، حيث كان خريج "كلية بافل هالاهان" الذي سيغدو أكاديميا، في بعثة علمية درس فيها الإثنوغرافيا واللهجات المحلية. دوّن كريمسكي في مجموعة "قصص بيروتية" كل ما رآه وسمعه في لبنان.
الترجمة هي أحد أشكال التعبير عن العلاقات المتبادلة في الأدب، وتلعب دورًا مهمّا في إدراك الأدب من جانب مختلف. تلعب الترجمة الأدبية الفنيّة دورًا مهمًا في العالم الحديث، فهي ليست وسيلة تواصل بين الأمم فحسب، إنما تساعد في تبادل الخبرات والإنجازات الثقافية والأدبية. والترجمة الأدبية واحدة من أصعب أنواع الترجمة، تتمثل مهمتها الرئيسة في "تجسيد أفكار ومشاعر مؤلف النصّ النثري أو الشعري بمساعدة لغة أخرى، وتجسيد صوره بمادة لغوية أخرى"، مما يخلق صعوبات محددة تواجه المترجم. ويتيح هذا النوع من الترجمة الفرصة أمام ممثلي الثقافات المختلفة لتبادل القيم الروحية.

هناك سؤال أبدي أمام الترجمة الأدبية: ما هي الترجمة الجيدة؟ هل ينبغي أن تكون دقيقة، لصيقة بالأصل، كاملة، إبداعية؟ ردًا على ذلك كتب ماكسيم ريلسكي: إن الترجمة الدقيقة عمل ميؤوس منه ومستحيل.
يجب أن تكون الترجمة إبداعية في المقام الأول، هناك حاجة إلى الموهبة من قبل المترجم والمؤلف الأصلي معا. "الترجمة من لغة إلى أخرى ليست مجرد وسيلة لإثراء التجربة الروحية لدى القراء، بل هي أيضًا وسيلة لإثراء اللغة التي تترجم الأعمال إليها". وهنا يعارض ماكسيم ريلسكي الرأي الذي يتبنى مبدأ "عدم التبعية"، في نقل عمل ما من لغة إلى أخرى، والذي يعبّر عنه فيلهلم فون هومبولت بقوله إن الترجمة من أي لغة إلى أخرى ممكن بشكل أساسي بغض النظر عن مستوى تطور لغة معينة. بالطبع يتعين على الترجمة تخطي صعوبات جسيمة، إن كانت اللغة الأم للمترجم لم تطور (لعدد من الظروف التاريخية أو غيرها) معادلات دقيقة للمفاهيم المستخدمة في النص الأصلي. وتنشأ صعوبات في عملية ترجمة الصيغ المهجورة، ومفردات اللهجات وعباراتها، والمفردات الحديثة والمولدة، والمفردات المنتقلة المعاني، وصيغ المجاملة. وهنا، من الضروري تفعيل جميع موارد اللغة الأم للبحث عن مكافئات (أو على الأقل موازيات) لغوية بلباقة ومهارة.
وبالتالي، فإنه من الصعب أن يتخيل سكان المناطق الاستوائية الأفريقية ما هي العاصفة الثلجية الجليدية، وكذلك أن يتخيل ابن الصحراء ما هي الأمطار الصيفية. في عمله "مشكلات الترجمة الأدبية"، يقارن ماكسيم ريلسكي المترجم بالصيّاد، ويصوّر الترجمة على أنّها "صيد الكلمات". وفي سونيت "فن الترجمة"، يتعامل ريلسكي مع الترجمة بطريقة مجازية على أنها عملية صيد، وأن المترجم صيّاد: كتابك هذا يمثّل الأفق/ بسطوره المصطفة على الأوراق/ وأنت تقنص كصياد ماهر/ وتحمل صيدك إلى الناس كصديق.

في مقالتنا هذه نستعرض ترجمتين من الأوكرانية إلى العربية، قام بهما اللبناني عماد الدين رائف. في العام 1995، تخرج من كلية الصحافة في جامعة روستوف على الدون. وبينما كان لا يزال طالبًا، اهتم بشخصية المستشرق الأوكراني البارز أغاتانغل كريمسكي، عندما علم أنّه عاش في بيروت لمدة عامين وكتب العديد من الأعمال عن مسقط رأسه في لبنان. مرت السنوات، إلا أن الاهتمام بكريمسكي لم يخفت، وها قد حان الوقت حين بدأ رائف بترجمة "قصص بيروتية". لقد أدهشته هذه القصص المليئة بصور تاريخية أصيلة رائعة عن الحياة في بيروت القديمة وعادات سكانها. كانت عملية الترجمة بطيئة وشاقة للغاية واستمرت خمسة عشر شهرًا، حيث لا يزيد عدد كلمات النص عن خمس وعشرين ألف كلمة، أمضى رائف في ترجمة الصفحة الواحدة منها عدة أيام. وأثناء العمل على ترجمة "قصص بيروتية" استخدم رائف جميع أعداد مجلة "نوفا هرومادا" (المجتمع الجديد)، التي طبعت هذه القصص على صفحاتها في العام 1906.


وهكذا، ولمناسبة مرور 120 عامًا على النشر الأول لمجموعة "قصص بيروتية"، نشرت ترجمتها إلى اللغة العربية. وقدمت هذه الترجمة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب بدورته الستين (كانون الأول/ ديسمبر 2016). في كييف نُظّم عرض تقديمي للكتاب في مكتبة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية، في آذار/ مارس 2017. قال رائف في العرض إن من صعوبات الترجمة لاختلاف الكبير بين لغة أغاتانغل كريمسكي واللغة الأوكرانية الحديثة، فالقواميس الحديثة لم تسعده كثيرًا، فما كان عليه إلا استخدام القاموس الروسي الأوكراني النادر، الذي حرره أغاتانغل كريمسكي وسيرغي يفريموف، ونشر في عشرينيات القرن العشرين، وكان هذا القاموس معينه في الترجمة. باتت قصص اغاتانغل كريمسكي البيروتية في متناول القارئ اليوم، وقد ابدى هذا القارئ اهتمامه بها، كما أوصى بها بعض أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت طلابهم.
بعد مرور سنة على نشر ترجمة قصص أغاتانغل كريمسكي البيروتية، قام عماد الدين رائف بترجمة دراما إيفان فرانكو الغنائية "الأوراق الذابلة". ما الذي دفعه إلى ترجمة هذا العمل لفرانكو؟ إن تراث فرانكو الإبداعي ضخم ومتنوع للغاية. والأسلوب الاسترجاعي (الذي يسمح بإعادة تكوين صورة الماضي حتى في حالة عدم توفر مجموعة كاملة من المصادر المتعلقة بفترة تاريخية معينة. وتستند هذه الطريقة على اتصال وثيق بين الحاضر والماضي) في ظروف كتابة إيفان فرانكو هذه الدراما الغنائية تعطينا إجابة على هذا السؤال. إن عبقرية إيفان فرانكو كفنان معترف به عالميًا لا جدال فيها، وهو رقم صعب فريد من نوعه وأصيل في التاريخ والأدب والثقافة الأوكرانية. مكافح، مواطن، ووطني، أستاذ في الفلسفة وكاتب رُشح إلى نيل جائزة نوبل. ولكن "الإنسان مهما كان قويًا، إلا أنه لا يمكنه أن يعيش بالنضال وحده لتحقيق المصالح الاجتماعية"، كما كتب ميخائيل كوتسيوبينسكي في مقالته "إيفان فرانكو"، التي نشرها في مجلة "التنوير" في تشيرنيهيف، سنة 1908. غالبًا ما تتشابك مأساة الحياة الشخصية مع أكليل الشوك في الحياة العامة. وكان لدى فرانكو شيء رائع – دراما غنائية سمّاها "الأوراق الذابلة، وهي قصائد رقيقة وعاطفية، تزدحم بمجموعة واسعة من المشاعر وتسعى لفهم الروح البشرية، وخلال قراءتك إياها لا تعرف من تفضّل: الشاعر المناضل أم الشاعر الغنائي، أم مغني الغرام والمزاج؟".

حظيت بعض هذه اللآلئ الشعرية المنظومة في الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة"، بتلحينها وغنائها لتغدو من روائع الغناء الرومنسي الأوكراني، ومنها: "يا ربّة القدّ اللطيف الآسر..."، "لماذا تزورينني في المنام..."، "يا توتتي البريّة الحمراء..."، "إذا سمعت بكاء تحت شباكك...".
قصة نشر هذه الدراما الغنائية مثيرة للاهتمام، فقد طبعت القصائد التسع الأولى منها بعنوان "الأوراق الذابلة" في مجلة "زاريا" من دون توقيع، مجهولة الكاتب، ما تسبب بمفاجأة وإثارة لقراء المجلة وأثار جدلا. قلة منهم كانت لتفكر أنّ هذه "الأشعار اللطيفة المغناة" نظمها إيفان فرانكو، وأنه انتقل بشعره من "مطرقة البنائين الثقيلة" إلى "ممثل الحب العذري". مع التحضير لنشر الدفعة الثانية من ديوان "من القمم إلى الحضيض" (1893)، رتب في مجموعة منفصلة "الأوراق الذابلة" خلال العامين 1892 و1893. وفي محاولة منه لإعادة إنتاج قصّة مأساوية تتمثل في "حب ميؤوس منه"، أتمّه بـ"خاتمة"، ودّع المؤلف الحزين أناقة البطل الغنائي. في ذلك الوقت لم يكن لديه أي فكرة عن الديوان الشعري الجديد، وبطبيعة الحال عن الدراما الغنائية الثلاثية القبضات.
في مقدمته للطبعة الأولى من "الأوراق الذابلة (لفيف، 1896)، كتب إيفان فرانكو أن مذكرات منتحر يائس من الحب وقعت بين يديه. وفي مقدمة الطبعة الثانية (كييف، 1911)، التي خرجت مع استثناءات من الرقابة، نفى فرانكو قصته الأولى ووصفها بأنها أدب خيالي. ولكن هذه اليوميات، المكتوبة باللغة البولندية، كانت موجودة بالفعل. وهي تخص المعلم سوبرون، الذي لم يكن قد أتم عامه العشرين بعد، وكان واقعًا في حب الكاتبة الأوكرانية أوليانا كرافتشينكو (اسمها الحقيقي يوليا شنايدر). تقدم سوبرون منها وقدم لها عرض زواج، لكنه ووجه برفضها له. أرسل المعلم المغرم إلى أوليانا كرافتشينكو دفتر يومياته مع أشعاره، واختفى. أطلعت أوليانا كرافتشينكو إيفان فرانكو على هذه المذكرات. درسها لفترة طويلة وأدهش بها. حتى أنّه على غلافها كتب رباعية: قلب عاصف/ تمزق أشلاء/ من سيحسد/ مصيرا كهذا؟

يحتفظ معهد المخطوطات في معهد تاراس شيفتشينكو للأدب التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية بهذه المخطوطات اليوم. لكن لا توجد أي تطابقات على صعيد النصّ بين مذكرات سوبرون و"الأوراق الذابلة"، أما على المستوى التأليفي ونوع النص فالتأثير واضح وكبير. تسببت هذه المخطوطات المتواضعة، التي كتبها المعلم سوبرون، والذي لا نعرف اسمه، في ظهور إحدى روائع الشعري الغنائي الأوكراني الغزلي، عبر "الأوراق الذابلة" التي نظمها إيفان فرانكو. ولمجموعة "الأوراق الذابلة" خاصية أخرى، تتمثل بحقيقة أن إيفان فرانكو نشرها على نفقته الخاصة سنة 1896، في مؤسسة ستاروبيهيسكي، وقد وزعت هذه الطبعة بمهارة "دار ستاروبيهيسكي وابنه في لفوف".
وهكذا، كما اندهش إيفان فرانكو يومًا بيوميات سوبرون، تفاجأ بها عماد الدين رائف أيضًا. بداية قرأ المجموعة مطولا وفهم الدراما المليئة بمأساة الحياة الشخصية للشاعر، ولا عجب في أنّ العلماء الأدبيون يعتبرون أن هذه الدراما تمثل قمة عبارات فرانكو الحميمة. خلال ترجمته "قصص بيروتية" لأغاتانغل كريمسكي، استخدم عماد الدين رائف "القاموس الروسي الأوكراني" الذي حرره أ. كريمسكي وس. يفريموف، كذلك في ترجمة دراما إيفان فرانكو الغنائية. في البداية، ترجم رائف كل قصائد الديوان نثرًا، ثم قام بترجمة أخرى أكثر تفصيلا وعمقًا، فقد كانت ترجمة "قصص بيروتية" مفيدة، ساعدت مواد مؤتمر "الأوراق الذابلة: نصوص، مواد، بحوث"، الذي عقد في جامعة إيفان فرانكو الوطنية في لفيف، سنة 2007، المترجم كثيرا.
وهناك ميزة أخرى، وهي أن الترجمة خرجت بالتوازي مع الأصل عبر النصين الأوكراني والعربي في كتاب واحد. وخلال عملية الترجمة، جمع رائف عددًا كبيرًا من الاقتباسات حول الأسلوب الشعري لإيفان فرانكو، وقارن النص الأصلي بالمنشورات الإلكترونية. وفي نصّه العربي دوّن المترجم أدنى عدد من الإحالات، مقدما تفسيرات لمصطلحات وأعلام وأماكن جغرافية، وكما قال، أعطى القارئ العربي حرية تلمس معاني الاستعارات الأوكرانية التي ضمّنها فرانكو في قصائده.

بقلم: أوكسانا جوفانيك (الباحثة العلمية الأولى في "المتحف الوطني للأدب الأوكراني)
المصدر (بالأوكرانية): "أعمال إيفان فرانكو وأغاتانغل كريمسكي باللغة العربية في ترجمات عماد الدين رائف"، مقالة علمية في حولية "المتحف الوطني للأدب الأوكراني: بحوث ودراسات وآفاق"، العدد 13، كييف، تموز/ يوليو 2019.