كلافكا: رواية جديدة لمارينا هريميتش


"بلا ألسن نحن، بلا أسماء/ ماء بكماء نحن، مرآة باردة/ ضباب لزج/ نحن أشباح المجتمع/ نتسلل بين الناس بلا أثر.."، كلمات ماكسيم ريلسكي (1895 – 1965) تدور وتدور في رأسي رغما عنّي مرات ومرات منذ أغلقت الصفحة الأخيرة من رواية "كلافكا" التي أهدتني نسخة منها الصديقة الكاتبة الأوكرانية الكبيرة مارينا هريميتش.

الرواية الثانية التي أقرأها لهريميتش بعد "أجنبية في سيارة حمراء" (2018)، التي تناولت فيها موزاييك الطوائف وتشعبات العلاقات بين أبنائها من جهة، وبين اللبناني و"الآخر" عبر حكاية امرأة أوكرانية متزوجة من لبناني، من جهة أخرى. رواية هريميتش الأخيرة "كلافكا" (كييف: دار نورا دروك، 2019). حصلت عليها منذ ثلاثة أيام ولم أتوقف عن القراءة حتى أنهيتها، ومرد ذلك على الأسلوب الأنيق الذي تكتب به هريميتش ممزوجا بالفكاهة حينا وبالسخرية المبطنة أحيانا.

هي رواية فنيّة، فكلافكا سكرتيرة اتحاد الكتاب الأوكرانيين شخصية متخيلة. لكن هذه الفتاة تعيش في واقع حقيقي رسمته لها باحتراف ريشة هريميتش المؤرخة والعالمة في الإنثروبولوجيا والإثنوغرافيا، أعادت تكوين مدينة كييف ما بعد الحرب العالمية الثانية بأدق تفاصيلها مستعينة بعشرات الوثائق الأرشيفيّة التي تروي عن أحداث تلك المرحلة وشخصياتها. تعرفنا هريميتش على مجتمع الكتّاب والمؤلفين، على "بيت الأدباء" (روليت) وسكانه المثيرون للاهتمام. في العام 1947، عقدت الجلسة الشهيرة الموصومة في تلك الحقبة بجلسة هزيمة الأدب الأوكراني، والتي حمل عبئها المباشر يوري يانوفسكي وماكسيم ريلسكي. قلة من الناس يعلمون أن تأثير الفعلة لم يتوقف على الأديبين الكلاسيكيين في تلك الجلسة بل طال الأدب الأوكراني وزملاء القلم، وامتد إلى تحريض الجيران في المنزل الواحد بعضهم ضد بعض، وهم يسعون إلى تحقيق طموحاتهم. وقد خرج أطراف تلك الأزمة منها بطرق مختلفة، منها ما جسد وضعا أخلاقيا صعبا، بعضهم احتفظ بابتسامته العريضة على شفتيه وبرأسه المرفوع، والبعض الآخر يجرجر أذيال الخيبة تحت وطأة تأنيب الضمير. وفي تلك المعمعة وحدها كلافكا، سكرتيرة اتحاد الكتاب، تعرف كل شيء عن الأدباء وتشهد أحداثا دراماتيكية أمام عينيها. ذلك بالتوازي مع تغيرات تطرأ على نمط حياتها الرتيب، حيث باتت محط اهتمام مثلث الجهات، من قبل: ضابط مسؤول في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وأحد الكتاب الشباب العائد لتوه من الجبهة. تتكشف الحبكة الدراماتيكية للرواية وخلفيتها الحياة الأدبية في أربعينيات القرن العشرين، مسرحها كييف، والسوق اليهودي فيها، وشقة سكنية مشتركة وبطلتها كلافكا.

تتناول "كلافكا" عن قرب مدى تأثير السلطة على تنظيم جلسات اتحاد الكتاب الأوكرانيين، والاضطهاد اللاحق بالعاملين في الفضاء الأدبي ومصائرهم. تبلغ في سردها من الدقة درجة تصلح فيه الرواية أن تكون توثيقية، ذلك ما يبهرك، قبل أن تردك إلى انحناءات السرد الروائي وجمالياته الفنية، وكل ذلك عبر عيني السكرتيرة كلافكا التي تتقاطع بين يديها المصائر وليس لديها أدنى قدرة على التأثير في مسارها، بل تكون هي المتأثرة. تنغلق في عالمها، ترى أن ثقبا غامضا ظهر تحت ابط قميص صوفي سيزعج العين الثالثة، تتشبث بالصوف المليء بالأخبار والأحداث، بالأسى والخيبة والأمل والألم... فتعيد عيناها رسم مدينة غلبها الزمن بسبعة عقود ونيف: نابضة بالحياة، شخوصها يسعون بجد إلى التكامل في ظل ضغوط هائلة تقودهم إلى الانتكاس.

للرواية قراءات مختلفة، فهي قد تعني لمن عاش تلك المرحلة بتفاصيلها وكان على صلة بالمجتمع الأدبي غير ما تعنيه بالنسبة إلى القارئ الأوكراني الحديث، الذي يرى تلك الأحداث والمصائر عبر عيني كلافكا وقلم هريميتش. ولا يخفى أنه بالنسبة إلى قارئ أجنبي مثلي، فإن الرواية تكشف أمامه عالما كان محجوبًا عن العلاقات داخل مجتمع الكتاب في مرحلة تاريخية صعبة تلت الحرب العالمية الثانية. وأرى أننا بحاجة في بيروت إلى هذا النمط من الأدب، الذي يعيد رسم معالم مرحلة أربعينيات القرن العشرين أدبيا، وهي مرحلة لم نتوافق على رؤية مشتركة لها، لاسيما وأنها مرحلة أنهت الانتداب الفرنسي بين استقلال وجلاء، وكونت واجهات النخب والكتّاب المتناحرين بعضهم مع بعض. ويستلزم ذلك جهدًا جبارا في إزاحة أكوام من الغبار السياسي الراكد تحت أثقال "الامتيازات التاريخية" لطوائف وملل.. ويحتاج على بعض الأمل.    
مهما كان الأمر، فإن هناك جانبا آخر شخصيا في قراءتي لـ"كلافكا"، سأسعى إلى اكتشافه مع الأيام، إذ لا بد من زيارة تلك الناحية من كييف ومعاينة الحيّ الذي رسمته هريميتش بكلماتها.. لا بد وأنني سأجد كييف أخرى.