١٣٠ عاماً على ولادة «ناسك الشخروب» ما خفي من رحلة ميخائيل نعيمة السوفياتيّة

تحتفل الأوساط الأدبيّة في العام الحالي بالذكرى الثلاثين بعد المئة لولادة الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة (١٨٨٩ - ١٩٨٨)، الذي تعتبره المؤسّسات التعليميّة العالية في أوكرانيا وروسيا ودول الاتّحاد السوفياتي السابق الخرّيج اللبنانيّ الأوّل والأبرز من معاهد روسيا القيصريّة. وكان نعيمة قد أُوفد من دار المعلمين في الناصرة لمتابعة تعليمه في سمينار بولتافا الروحيّ التابع للجمعيّة الإمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة في العام ١٩٠٦، حيث أمضى خمس سنوات، عاد إثرها إلى لبنان في العام ١٩١١، قبل أن يبدأ رحلته الأميركيّة التي دامت عقدين من الزمن.

لعبتْ أوكرانيا دوراً مميزاً في حياة الكاتب ونقْده الأدبيّ. في بولتافا الأوكرانيّة، وعبر بوّابة الأدب الروسيّ فتحت الآفاق أمام ميخائيل نعيمة الأديب، أو كما عبّر عن ذلك في رسالة له إلى العلّامة إغناطيوس كراتشكوفسكي (١٨٨٣ - ١٩٥١) أنّه «إنسان تربّى على أدب بوشكين وليرمنتوف وتورغينيف الرفيع، وضَحِكِ غوغول عبر دموعه، وواقعيّة تولستوي الرائعة...». وكان نعيمة في الوقت عينه مطّلعاً عن كثبٍ على الأدب الأوكرانيّ، وقد ثمّن نقّاد الأدب عالياً ترجمة نعيمة لقصائد الشاعر الأوكرانيّ الأكبر تاراس شيفتشينكو، ومن بينها قصيدة «زابوفيت» (الميثاق)، وذلك لمناسبة الذكرى الـ ١٥٠ على ولادة الشاعر (الغربال الجديد). ويكشف اختيارُ نعيمة هذه القصائد مدى تضامنه مع سعي الشعب الأوكرانيّ إلى الحرّيّة. يقول في ترجمة «زابوفيت»:

عندما يدركني الموت
ألحدوني وسط سهبٍ فسيح
من سهوب أوكرانيا الحبيبة.
وليكن لحدي على هضبةٍ
تطلُّ على هضابٍ كثيرة
وعلى الحقول المترامية
وعلى نهر الـ«دنيبر»
وأسمع منها
هدير ذلك الهدّار الجبّار
وأبصر كيف يحمل إلى البحر
دماءَ أعداء أوكرانيا.
عندئذٍ أنهضُ من لحدي
وأهجر الحقول والهضاب
وبوثبةٍ واحدةٍ أدرك عرش اللّه
لأرفع إليه صلاتي
أمّا قبل ذلك
فأنا لم أكن أعرف اللّه.
ألحدوني ثمّ هبُّوا
وحطّموا الأصفاد
وبدماء الأعداء البغيضة
ارْووا الحرّيّة. ثمّ لا تنسوْا أن تذْكروني
بكلمةٍ طيّبة
في أُسرّتكم الجديدة العظيمة
أُسرّة الحرّيّة

العودة بعد نصف قرن

لم يعدْ ميخائيل نعيمة إلى أوكرانيا أو روسيا من جديد سوى في العام ١٩٥٦، وذلك بدعوة من اتّحاد الكتّاب السوفيات، ودوّن انطباعاته عن هذه الرحلة في كتاب يعدّ من كلاسيكيّات الأدب العربيّ الحديث، حمل عنوان «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، ويمكننا اعتبار الكتاب إضافةً نوعيّةً إلى كتاب نعيمة الشهير «سبعون»، الذي هو عبارة عن سيرة ذاتيّة ثلاثيّة الحلقات. وقد تُرجم الجزء الأوّل من هذا الكتاب إلى اللغة الروسيّة (دار ناأوكا، ١٩٨٠) بتوقيع المستشرقة سفيتلانا باتسيفا (١٩٢٨ - ١٩٨٢)، وعن زيارته تلك إلى الاتّحاد السوفياتيّ يشير الكاتب باختصار في الجزء الثالث منه (١٩٤٩ - ١٩٥٩)، ويحيل القرّاء إلى كتابه «أبعد من موسكو ومن واشنطن». عندما دوّن ميخائيل نعيمة هذا الكتاب كان على معرفة وطيدة بالكاتب والباحث في الدراسات العربيّة توفيق كزما (١٨٨٢ - ١٩٥٨)، وهو دمشقيّ المولد أمضى حياته في أوكرانيا، وتقاطعتْ حياته مع حياة نعيمة في محطّات كثيرة، إذ إنّه وُلد في أسرة عربيّة أرثوذكسيّة كنعيمة، وكلاهما خرّيجا المدارس المسكوبيّة، ثمّ دار المعلّمين في الناصرة، ثمّ المعاهد الروحيّة في أوكرانيا، فقد أنهى كزما سمينار كييف الروحيّ ثمّ الأكاديميّة الروحيّة كذلك. وقد نشأتْ بين الكاتبين مراسلاتٌ وغدا كزما ناشرَ أدب نعيمة في الاتّحاد السوفياتيّ، حيث استطاع، وفي فترة زمنيّة قصيرة، أن يترجم عدداً من أعمال نعيمة الأدبيّة إلى الروسيّة. ومن بين تلك الأعمال «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، الذي ترجمه كزما كلّه بطلبٍ من نعيمة، لكنّ الترجمة لم تبصر النور وظلّت طيّ الكتمان، فما السبب؟
زار ميخائيل نعيمة الاتّحاد السوفياتيّ بعد ٤٥ سنة على تركه بولتافا. مطلع آب / أغسطس ١٩٥٦ سافر الكاتب بالطائرة من بيروت إلى براغ، حيث أمضى يومين بدعوة من الحكومة التشيكوسلوفاكيّة، ثمّ أمضى في الاتّحاد السوفياتي ٢١ يوماً وغادره في ٢٥ آب / أغسطس. خلال تلك الفترة زار موسكو، لينينغراد، كييف، بولتافا وستالينغراد. وبعد فترة قصيرة من عودته إلى لبنان كتب نعيمة انطباعاتِه عن الرحلة مضيفاً إليها أفكاره الفلسفيّة الكونيّة. في ٢٨ شباط / فبراير ١٩٥٧، دوّن رسالةً إلى صديقه الكييفي يقول فيها: «أمس انتهيت من وضع كتابي عن الرحلة القصيرة التي قمت بها الى الاتّحاد السوفياتي، وقريباً أقدّمه للطبع. وهو كتابٌ من نمطٍ جديدٍ في تحليل المجاري الكونيّة وفيها الصراع بين الرأسماليّة والشيوعيّة. وأرجو عند النهاية من طبعه أن أرسل إليك نسخةً منه. سيجد الشيوعيّون فيه أشياءَ كثيرة إلى جانبهم وأشياء لا تروقهم. ولذلك أخشى أن تلاقي ترجمته إلى الروسيّة ونشرها في روسيا بعض الصعوبات» (معهد المخطوطات في مكتبة فيرنادسكي الوطنيّة الأوكرانيّة، ملفّ ١٧٣، الرقم ١٠٢). في رسالةٍ أخرى بتاريخ ٥ حزيران / يونيو، يخبر نعيمة صديقه بتأخيرٍ طرأ على صدور الكتاب ويعدُه مجدّداً بإرسال نسخةٍ فور خروجه من المطبعة. وما إن حصل كزما على النسخة حتى عكف على ترجمتها، وذلك يظهر في مخطوط الترجمة، حيث يؤرّخ في أعلى الصفحة الأولى من الدفتر في ١٨ آب / أغسطس ١٩٥٧. ويشكره نعيمة في رسالةٍ بتاريخ ٢٣ تشرين الأوّل / أكتوبر لكونه قطع شوطاً كبيراً في الترجمة (معهد المخطوطات، ملفّ ١٧٣، الرقم ١٠٧)، ويقول في رسالته: «رجائي أن توفّق في ترجمته ثمّ في نشره حتى وإن كان فيه ما ليس يرضي أصحابنا السوفيات كلّ الرضى. فالمهمّ أنّه ينصفهم وعليهم أن يقبلوه بطيبة خاطر».

مصير الترجمة

«عليهم أن يقبلوه بطيبة خاطر!»، كيف ذلك والسلطة لا تقبل بأيّ شكلٍ من أشكال الانتقاد؟ كان كزما يعرف جيّداً «أصحابنا السوفيات»، وربّما كان يعرف أنّه - وإن برّ بوعده لصديقه - فإنّ ترجمته لن تطبَع. فقد اختبر بنفسه اضطهاد «مفوضيّة الشعب للشؤون الداخليّة - NKVD» (كي جي بي لاحقاً) للنّخَب الأوكرانيّة في العام ١٩٢٦، عندما اعتقلت المفوضيّة الأكاديميّ والمستشرق الكبير السكرتير الدائم لأكاديميّة العلوم الأوكرانيّة أغاتانغل كريمسكي وألحقتْ به كزما، وفقدا وظيفتيهما، بعدما عملا معاً لفترةٍ طويلة على بحوثٍ علميّة، منها كتاب «قصّة مؤرّخ القرن الحادي عشر العربيّ أبي شجاع الروذراوريّ كيف تنصّر الروس»، الموقّع باسمَيهما والصادر عن أكاديميّة العلوم الأوكرانيّة في العام ١٩٢٧ (الكتاب ترجمة ودراسة لفصول من «ذيل تجارب الأمم» للوزير أبي شجاع محمّد بن الحسين ظهير الدين، ويحتوي على أحداث ٢٥ سنة: من ٣٦٩ إلى ٣٩٣ هجريّة، وهو القسم الأخير من كتاب تجارب الأمم لأبي علي مسكويه).

وفي العام ١٩٣٨ اعتقل كزما مرّة أخرى وقضى في السجن نحو ستّة أشهر. ولا تزال وثائق اعتقاله محفوظةً في أرشيف جهاز الأمن الأوكرانيّ (إن.كي.في.دي.، أوكرانيا السوفياتيّة، الملفّ الرقم ٤٦٦٣٧، محفوظ تحت الرقم ٣٨١٧٩)، ومن بينها محضر استجوابٍ جاء فيه: «لقد وجّهت إليك تهمة، وهي أنّك أثناء إقامتك في الاتّحاد السوفياتي كنتً تمارس أنشطةً تجسّسيةً لصالح إحدى الدّول الأجنبيّة»، وكان جواب كزما: «أيّها الرفيق المحقّق، أنا لم أشارك يوماً في أيّ نشاطٍ تجسّسيٍّ ضدّ السوفيات، ولا أقرّ بأنّني مذنب». إلّا أنّ ذلك لم يطُلْ، فقد كانت السلطات السوفياتيّة بحاجةٍ إلى التعاون مع النّخَب، خصوصاً بعد اتّفاق جوزف ستالين مع أدولف هتلر واجتياح الجيش الأحمر غرب أوكرانيا وبسْط سلطته على كامل أراضي الضفّة اليمنى للدنيبر. وهكذا أرسل كريمسكي إلى لفوف لتنظيم العمليّة التعليميّة والعلميّة في جامعة لفوف، فيما كان كزما في السجن وقد تحوّلت حياته إلى عذابٍ بعدما فقَدَ الأمل في إطلاق سراحه، حينذاك أقنع كريمسكي المدّعي العامّ بمراجعة قضيّة كزما فأخلى سبيله. في مذكّراته، يذْكر كزما حادثةً واحدة من تلك الفترة، عندما استُدعي للاستجواب، يقول: «وضعوني أمام معضلة، وهي هل أنا مسيحيٌّ أم مواطنٌ علمانيّ؟ وبفضل من الله أجبت أنّني مسيحيّ وربّما مواطن علمانيّ سيّئ، افعلوا ما تشاؤون بي! لكن عوض أن تتدهور حالتي بدأوا يحسّنون تعاملهم معي». في العام ١٩٤١، قُبيل وصول الجحافل النازيّة اعتقلت السلطات كريمسكي واقتيد إلى معسكر اعتقالٍ في كوستناي - كازاخستان حيث تُوفّي، حلّ النّبأ كالكارثة على توفيق كزما الذي فقَد خير مدافعٍ عنه. بعد ذاك وحتّى وفاته، أي في فترة ترجمة أعمال ميخائيل نعيمة إلى الروسيّة، كان يحتفظ في منزله بحقيبةٍ فيها بعضُ الحاجيّات معدّة لحملها معه إذا ما اعتُقل فجأة.

إلى العلَن من جديد

أنهى توفيق كزما ترجمة ميخائيل نعيمة في ٢٢ أيلول / سبتمبر ١٩٥٧، أي قبل وفاته بستّة أشهر، وكان مصيرها النسيان. فتعاطُف ميخائيل نعيمة الهامس مع الشيوعيّة كان قد ترافق في كتابه مع معارضته للحزب، حيث كشف عن أفكارٍ تتناقض والأيديولوجيّة السوفياتيّة الرسميّة، داعياً إلى قوّةٍ ثالثةٍ، وذلك لن تمرّره إلى النشر أيُّ لجنةٍ رقابيّة بطبيعة الحال. فما الذي دعاه إلى الاعتقاد بأنّ كتابه سيُنشر بالروسيّة؟ أهو الاحتفاء به وتكريمه أثناء زيارته القصيرة؟ أم أنّه كان يعوّل على أنّ الزمن سيتغيّر، وأنّ أفكاره التوفيقيّة سيكون لها مكانٌ بالفعل على أرض الواقع؟ على أيّ حال، نامت مخطوطات الترجمة (دفاتر كزما، معهد المخطوطات، ملفّ ١٧٣، من ٣٤ إلى ٣٧) ستين عاماً إلى أن كشفتْ عنها الباحثة العلميّة الأولى في قسم الشرقين الأدنى والأوسط في معهد الاستشراق التابع لأكاديميّة العلوم الأوكرانيّة يوليا بتروفا، حيث درستْها وأعادتْ طبع مقتطفاتٍ منها بعدما حرّرتها، وذلك في كتابٍ ضمّ مجموعةً من البحوث الاستشراقيّة بعنوان «الطوق الساطع المختار في جواهر التقدير والاعتبار»، صادرٍ عن جامعة كييف الوطنيّة للعلوم اللغويّة، مخصَّص للاحتفال باليوبيل الماسي للمستشرقة الكبيرة ليديا بتروفا، بمشاركة كبار الباحثين والمستشرقين في أوكرانيا.

كشفتْ يوليا بتروفا، على ٣٤ صفحة من الكتاب التذكاري، خلاصةِ بحثها الطويل في أرشيف معهد المخطوطات التابع لمكتبة فيرنادسكي الوطنيّة الأوكرانيّة في كييف، حيث تضمّنت مقدّمتها تعريفاً بميخائيل نعيمة ورحلته السوفياتيّة، والعلاقة بينه وبين كزما والمراسلات بينهما، ثمّ أوردت تحقيقها لمخطوط ترجمة الكتاب، حيث نشرتْ مقتطفاتٍ منه، مشيرةً إلى التصحيحات التي أوردتْها في النصّ. وبذلك تكون بتروفا قد أنهتْ جزءاً من مهمّة توفيق كزما التي طالت ستّة عقود من الزمن.