حفيف "سعف نخيل"... بيروت في أشعار كريمسكي

بالتعاون والتنسيق بين النادي الثقافي العربي والسفارة الأوكرانية في لبنان، يستضيف النادي في مركزه الخميس المقبل، في 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، حفلة لعرض كتابين ترجمتُهما إلى العربية خلال الشهور الفائتة، وصدرا عن دار دوليبي في كييف. الأول مصنّف البروفيسور إيهور أوستاش الموسوعي "الأوكران ولبنان"، والثاني ديوان المستشرق أغاتانغل كريمسكي "سعف النخيل – أشعار غرائبية"، وذلك في إطار اليوم الأوكراني في النادي الثقافي العربي في بيروت.

وقد كنت قد بدأت رحلتي مع كريمسكي قبل سنوات. فبعد مجموعة "قصص بيروتية" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2017)، وبعد عشرات المقالات والأبحاث والمتابعات في رحاب الأدب الأوكراني، ها أنا أتقدم خطوة أخرى من أدب هذا الشاب الذي حلّ في بلادنا بين العامين 1896 و1898، فعشقها ورسم طبيعتها وناسها بكلماته. كما كنت قد قدمت إلى المكتبة العربية ثلاثة كتب أوكرانية أخرى، وهي الموجز في تاريخ أوكرانيا لأولكسندر بالي (كييف: 2018) وأوراق إيفان فرانكو الذابلة (كييف: 2017).  

بحر بيروت

في ديوان "سعف النخيل" الذي أبصر النور بحلّته الأولى في مدينة لفيف سنة 1901، ووصفه بأنّه أشعار "أكزوتيكيّة"، صبّ كريمسكي تجربته الشعرية الناضجة، عبر أربع مجموعات صغيرة، كَتَب ثلاثاً منها في لبنان، هي: على جبال لبنان، وحيد في غربتي، وحبٌّ آثم، شكّلت صلب ديوانه الأول. وعلى الرغم من أنّه كانت لديه محاولات شعرية قبل رحلته اللبنانية، إلا أنّه مدين لبلادنا بولادته كشاعر، حتى أنّ قصائده التي نظمها خلال عقدين من الزمن وأضافها إلى ديوانه تزخر بالدوافع الشرقية مانحة القارئ تلمّس لذة المشاعر عينها التي انتابت كريمسكي شابًا في بيروت. ولا عجب في ذلك، فإنّ كريمسكي أحبّ بيروت وسحرته طبيعة لبنان الجبلية. وقد استلهم قصائد ديوانه، كما يقول، من هدير أمواج بحر بيروت ومن حفيف سعف النخيل على شاطئها وفي جوار القدس، التي زارها قبيل عودته إلى دياره.

نتلمّس في المجموعات الثلاث، سمات الحبّ والغربة والجمال، ويمازج بينها كريمسكي، بعدما اختبر تجربة حبّ مؤذية لمشاعره تترافق ونظمه القصائد. بعد غياب المحبوبة، ماريا كامينسكا، التي أفصح لها عن حبّه في بيروت لكنها رفضته، وبعد غياب صديقيه الوحيدين، القنصل الروسي ألكسندر غاغارين، وزوجته ماريا لازاريفسكا، وقع كريمسكي تحت وطأة الشعور الثقيل بوحشة الغربة.

يقول كريمسكي في إحدى رسائله: "كنت مكتئبًا كما لو أنني فقدت أقارب لي. وللترفيه عن نفسي، بتّ أتجوّل في أرجاء بيروت النابضة بالحياة، وأنا أنظم الشعر لفترة من الوقت... جاءني أحد العرب، وشاهد على طاولتي ورقة دوّنت فيها بعضًا من هذه القصائد، سألني عنها فترجمت بعض ما جاء فيها إلى العربية، فقال إن صُوري الشعرية عن طبيعة سوريا تتحدث معه ببساطة إلى القلب. أرغب في معرفة إن كانت هذه الأشعار مجرد تعابير خرساء إن كانت موجهة إلى غير السوريين...".

جمال طبيعة بيروت وجبل لبنان الآسر، كان يردّ كريمسكي التائه إلى وعيه لبرهة، قبل أن يعود إلى دوّامة المعاناة من جديد فيرسمها شعرًا. وقد اعتبر الشاعر الأوكراني الكبير إيفان فرانكو، أن أشعار كريمسكي "فائقة الأصالة". أما لغة كريمسكي، بالنسبة إليّ كمترجم، فليست سهلة نثرًا، فكيف بها وقد سكبها في قالب شعري يحاكي المعاناة، ليصوّر فيه وطأة مشاعر ألم الهجر والحنين حينًا، أو لينمّق بمفرداته وصف الطبيعة حينًا آخر. وقد كانت خير مُعين لي في رحلة الترجمة، المعاجم التي أشرف عليها كريمسكي نفسه، خلال العقد الثاني من القرن العشرين، وقد أعيد طبعها في كييف مؤخرًا.

التجديد الشعري

صحيح أن كريمسكي أصدر ديوانه للمرة الأولى سنة 1901، إلا أن بعض القصائد كان قد نشرها نهاية 1897 في مجلة "زوريا" (الفجر) في لفيف، وهي مجموعة "في جبال لبنان": في الشتاء (أمي الحبيبة.. مشيتُ مع الجبل،...)، وفي الصيف (صخورٌ، شجراتُ أرز.. المساءُ يقترب،...)، التي نظمها في الشوير، إلى قصيدة "الشرق، سوريا، لبنان. العبائر الفوّاحة تتنفّس هنا"، وترجمته الأوكرانية لموشّح "أنت الممنع يا رشا". وذلك بالتوازي مع نشره قصائد الشعراء الشرقيين التي ترجمها إلى الأوكرانية، وقد ضمّنت في إصدار بعنوان "تحيّة إلى الدكتور إيفان فرانكو لمناسبة اليوبيل الفضي على انطلاقة نشاطاته الأدبية..." (لفيف، 1898).

القسم الذي يعنينا من الديوان تضمن أشعار 1898-1901، وصدر في مدينة لفيف (قرب الحدود مع بولندا) سنة 1901، ثم غدا كريمسكي يضيف إلى الديوان قصائد مراحل مختلفة من حياته، فصدرت الطبعة الثانية في مدينة زفينهورودكا سنة 1902. في العام 1908، نشر الجز الثاني من ديوانه متضمنًا أشعار 1903 – 1908، في موسكو. وأخيرًا، في العام 1922، نشر الطبعة الأولى من الجزء الثالث من "سعف النخيل" متضمنًا أشعار 1917 –  1920. وهكذا يتكوّن الجزآن الأولان من ديوان "سعف النخيل" بحلته الأخيرة من قصائد أصيلة لكريمسكي، أما الجزء الثالث فضمّ ترجمات قصائد شعراء شرقيين مثل الفردوسي، ابن سينا، عمر الخيام، حافظ، سعدي، رودكي، الجامي، مهري خاتون، وغيرهم.

قدّم كريمسكي ديوان "سعف النخيل" على أنّه "أشعار غرائبية"، حاملًا تيارًا جديدًا إلى الأدب الأوكراني أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأثرى هذا الديوان بشكل موضوعي بزخارف شرقية، ومشاهد "جنوبية" خلابة، وقد شحن مفرداته بنفَس أغنيات الشرق القديمة وألحانها. شكل كريمسكي مسارًا في ريادة ترجمة الشعر الشرقي إلى الأوكرانية، وقد دعّم، وفق إيفان فرانكو، الجسور الذهبية بين الشعوب، التي تحمل الأدب الأوكراني إلى المسرح العالمي. كما قام كريمسكي بتطوير الاستشراق شِعرًا، ورفعه بقوة إلى مستوى جديد، حيث كان يعيد، بشكل قوي، إنجازات أسلافه. ومن المثير للاهتمام مدى ولعه بترجمة الأديب الكبير بانتلمون كوليش لسفر "نشيد الأنشاد" من العهد القديم، ويقول في إحدى رسائله "يا لها من ترجمة جيدة! في أثناء إقامتي في لبنان شعرت بتقديري العميق لها، وعلى الرغم من أنني وسط مناظر طبيعية محلية مدهشة، فإنني أقتبس لنفسي مقتطفات من تلك الترجمة...".

كريمسكي وفرانكو

كثيرون من الباحثين في أعمال أغاتانغل كريمسكي يقارنون ديوانه "سعف النخيل" بدراما إيفان فرانكو الغنائية "الأوراق الذابلة"، فهما يعكسان مأساة عميقة لحب ميؤوس منه. وفق كراسيوك: "لا يكمن التماس بين ديوان أغاتانغل كريمسكي "سعف النخيل" ودراما إيفان فرانكو "الأوراق الذابلة" في التشابه شكلًا، إنما في تقنيات الثيمة الغنائية. نلاحظ ذلك في بناء مجموعات القصائد، وفي حركة الحوار الداخلي، وفي تفاصيل الصور الشعرية. إنما نتحدث خصوصًا عن مجموعتين شعريتين من ديوان "سعف النخيل" تحديدًا، وهما "حب آثم"، و"حب بشري". في قصيدته "تسلّقت القمّة. كانت دونها الغيوم" (1900)، يجمع أغاتانغل كريمسكي بين مكونات جمال الطبيعة اللبنانية في وصف بيروت وجبل لبنان:

"تسلّقت القمّة.. كانت دونها الغيوم
نظرت إلى الأفق حيث بحر بيروت
هنا أنهار جليديّة شتاء، وهناك لسعة نار الشمس
أنا على حافة غريبة، زاوية فردوسيّة رائعة
تتمايل بيروت كحوريّة الجنّة ميساء مشرقة
حيث تنتصب النخلات على سجادة الزنبق
وتبثّ شذاها الدافئ المخدّر
زهر مسك الرّوم المُسكِر والسحلبيّة المتخايلة
أنظر إلى لبنان، هنا، حيث يتنفّس البرد
حيث القوس الجبليّ الأخضر والندى الساحر
بساتين تكتسي بالزهر.. تدثّرت بالربيع" .
**

الرمز الشعري
في كتابه "أشعارنا عام 1901"، نشر إيفان فرانكو مجموعة مختارة من قصائد كريمسكي التي أدرجت في ديوان "سعف النخيل"، وقال عنها إنها تزخر بـ"النفَس الغرائبي حقًا". في الوقت عينه، أشار الكاتب إلى أن "المشاهد الطبيعية السورية لا تجسدها الكلمة الأوكرانية فحسب، بل تُشاهَد بالعين الأوكرانية عبر القصائد. تُشاهد بعين السهوب المعتادة على الأفق الرحب، والأبعاد المحددة، والمساحات الواضحة". وفق الناقد، فإن الشاعر الغنائي أغاتانغل كريمسكي "لا يضيع أبدًا في الظلال الشرقيّة المعتمة، ولا يتنكر أبدًا في زيّ رجل شرقي". كما أنّ الشاعر، وفق البروفيسور إيهور أوستاش، حين يتناول أعمال كريمسكي اللبنانية في مؤلفه "الأوكران ولبنان"، يعود في كثير الأحيان لينهل من معين التراث الشعري الشعبي الأوكراني، في صورٍ مستمدة منه حول عنق الفتاة، والمنزل، أو باستخدام رموزه ومجازاته مثل "القلب"، و"النجمة". ويضيف رموزًا محليّة لبنانية في ديوانه، ويظهر ذلك في مجموعة "حبّ آثم"، مثلًا حين تشبيه قامة الحبيب بشجرة أرز:

"قامته مثل أرزة،
وصدره نحاسي،
إن رأته فتاة،
فلن يهدأ لها بالٌ أبدًا".