إن الاستماع إلى أغنية عاطفية تُروي عن حبّ شاب لفتاة، والاستمتاع بمعانيها والتفاعل مع المعاناة التي فيها... ذلك شيء، ومعرفة ما إذا كان الشاعر قد مرّ بكل التفاصيل التي ترويها أغنيته، وأن كلّ حرف كتب فيها كان واقعًا، شيء آخر. فما بالك إن كان الحديث عن إيفان فرانكو، الشاعر الكبير الذي تُحفظ أشعاره عن ظهر قلب، وتُغنّى قصائده عن العشق منذ أكثر من قرن وحتى اليوم. يعتقد الباحثون أن فرانكو وقع في حبّ ثلاث نساء لكن لأيّ واحدة منهنّ بالتحديد كرّس الشاعر مجموعته الشعريّة – الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة"؟ فهو نفسه يقول في إحدى قصائده "مُنحتُ الحب في عمري ثلاثا".. ثلاث نساء أحبّهنّ، ونظم فيهنّ أشعاره. الأولى: "كزنبَقَةٍ بلونِ الطُّهرِ أولاهنّ"، والثانية: "ووسْطاهنَّ مِن فخرِ الأميراتِ"، ثم حلّت الثالثة "وآخِرهنَّ ذاتُ الحُسنِ وَحشيَّةْ". لكن، هل كنّ ثلاث نساء فعلًا، أم أن ذلك مجاز، والشاعر كان يكنّ مشاعر الحبّ لامرأة واحدة طوال حياته؟
الحبّ الأول.. مشاعر الصبا
ولد الشاعر السلافي الكبير إيفان ياكوفليفيتش فرانكو في السابع والعشرين من آب/ أغسطس 1856، في عائلة تنتمي إلى طبقة الفلاحين، في بلدة ناهويفيتشي، التي كانت تابعة لمقاطعة دروهوبتشسكي في غاليسيا، في الإمبراطورية النمساوية المجرية . كانت حياته عبارة عن مشوار طويل مع الصراعات المختلفة، كمصير مسقط رأسه، مملكة غاليسيا لودوميريا التاريخية، التي كانت حين مولده كبرى مقاطعات الإمبراطورية مساحة وأكثفها سكّانًا، وكانت عاصمتها مدينة لفيف (لفوف).
خاض الكاتب، والشاعر، والعالم، والناشر والناشط الاجتماعي فرانكو غمار الحياة بنزعة سياسية حادّة لم يسلم من عواقبها، فكان مصيره السجن غير مرّة. فمن نشاطه الدؤوب في "الحركة الاشتراكيّة الثورية للتحرر" على أراضي مملكة غاليسيا التاريخية ، إلى "الحزب الروسي الأوكراني الراديكالي" الذي كان ناشطًا على الأراضي النمساوية، كان الشاعر يسعى إلى تحرير شعبه الواقع على حدود الإمبراطوريات الكبرى من نير الاحتلال. وقد رُشّح فرانكو لنيل جائزة نوبل في العام 1915، إلا أن الموت باغته في الثامن والعشرين من أيار/ مايو 1916، قبل أن تنظر اللجان المختصة بترشيحه.
مشاعر الحبّ الأولى القويّة لدى إيفان فرانكو الشاب كانت تجاه ابنة الكاهن أولغا روشكيفيتش، وقد وقع في حبّها حين كان لا يزال طالبًا في المدرسة الثانوية. كانت أولغا تجيد اللغتين الألمانية والفرنسيّة، وكانت مولعة بالمعارف الإثنوغرافية، ولديها أعمال مطبوعة. وكان إيفان شابًا من أسرة فرانكو الفقيرة ذات الأصول الفلاحيّة، وقد وضعه لقاؤه بأولغا في مواجهة وضع جديد عليه، فللمرة الأولى يلتقي بفتاة من وسط اجتماعي آخر، حتى أنّه لم يكن يعرف كيف يتصرّف معها. بالإضافة إلى ذلك، كان يعتقد أنّ على الفتاة التي وقع في حبّها أن تتحدّث بطريقة غير مألوفة، لذلك كتب أولى رسائله إليها باللغة الألمانية.
والدا أولغا، في البداية، شجّعا صداقتها بإيفان، على أمل أنّه سيحقق نجاحًا في حياته المهنيّة. في ذلك الوقت كان فرانكو يدرس في جامعة لفوف وسط مجموعة من الشباب التقدمي. ولم تمرّ فترة طويلة قبل أن تغير الشرطة على الجامعة وتعتقل فرانكو وزملاءه. فكان نصيبه أن طرد من الجامعة واعتقل لمدة سبعة أشهر. بعد تلك الأحداث ما كان من والديْ أولغا إلا أن منعا الشاعر الشاب من التواجد في بيتهما، على الرغم من أنّه كان قد خطبها منهما. فرانكو الذي كان على عتبة العشرين من عمره، طلب يد أولغا رسميًّا، مع العلم أن سنّ الرشد القانونيّة في الإمبراطورية النمساوية – المجرية، كانت أربعًا وعشرين سنة آنذاك. وكانا في المقابل قد اشترطا عليه أن تُلعن خطوبتهما فقط، لكن حفل زفافهما سينتظر إلى أن يتخرّج إيفان من الجامعة ويحصل على وظيفة.
إلا أن حظر لقاء إيفان وأولغا لم يمنعهما من المراسلة عبر أصدقائهما المشتركين، وكانت المراسلات قد بدأت بعدما زادت وطأة حجز حريّة أولغا في منزلها، حيث منعها والدها من الخروج أو من مراسلة أحد، وكان قد اتفق مع ساعي البريد أن يعطيه شخصيًّا بيده كل الرسائل الواردة إلى البيت، ما أدّى بأولغا إلى الإعلان عن نيّتها باعتناق حياة الرهبنة والالتحاق بأحد الأديرة. إلا أن العالم لا يخلو من أهل الخير، فقد قرر الرفاق مساعدة العاشقين، وتحت الرقابة الصارمة للوالد، مرّروا كتابًا تعليميًّا لأولغا كان يحتوي على رسالة ملغّزة، حيث وضع فرانكو علامات بقلم الرصاص تحت أحرف متفرقة، إذا ما جمعت في كلمات شكّلت رسالة كاملة. وهكذا كان، فقد عملت أولغا لعدّة أيام بمساعدة اختها ميخائيلنا، على جمع الأحرف في كلمات... وفي النهاية، هربت أولغا من منزل والديها إلى عمّها، ثم إلى إيفان في مدينة لفوف. وقرر العاشقان أن يتّحدا، على الأقل أمام الله.
في العام 1880، تعرّض إيفان للاعتقال من جديد، وبعد خروجه من السجن التقى بأولغا، إلا أنّ لقاءاتهما باتت متباعدة. وقد تحدث أمور لا تفسير لها وغير متوقّعة أحيانًا، ومنها أنّ فلاديمير أوزاركيفيتش (كاهن من الروم الكاثوليك، وناشط ثقافي اجتماعي) طلب يد أولغا وقلبها من ذويها. فكّرت أولغا في عرض الزواج مطوّلًا، وتحت ضغط من والدها قررت أن تقبل به. وكتبت في رسالة إلى إيفان: "لا تعتقد أنّي نسيتك! فأنت لن تغادر رأسي أبدًا، أفكاري ستبقى مرتبطة بك بشكل وثيق، بأعمالك وأفكارك".
ومع السنوات، عندما تزوّج إيفان لم تنقطع أولغا عن مراسلته، إنّما هنّأته بزواجه، وبطبيعة الحال باتت مراسلاتهما نادرة. وفي العام 1912، مات زوج أولغا وهي في طريقها إلى زيارة شقيقتها ميخائلنا، فعادت للعيش في لفوف، وكانت تتحاشى الالتقاء بإيفان، مع أنّه كان قد عبّر عن رغبته برؤيتها غير مرة. وقبل وفاة إيفان، بعث إليها برسالة مع أختها يرجوها فيها أن تأتي لوداعه، يتوسّل غليها أن تفعل ذلك. استمعت أولغا إلى اختها، التي كانت تحاول إقناعها بتلبية رغبته، بكت طويلًا ثم قالت: لا!
لم ترد أولغا اللقاء بإيفان، كانت مولعة به جدًا، ولم تكن تريد تصوّر أن الشخص الوحيد الذي تكنّ له كل مشاعر الحب يحتضر. وهل كانت بالفعل لا تريد الالتقاء بإيفان حين كانا يعيشان في المدينة نفسها؟ لا، فقد كانت تشعر بالمسؤولية فحسب، حيث إن إيفان كان متزوّجًا، ولم تسمح لنفسها بالحلول بينه وبين زوجته.
وعبر ذلك، يمكننا أن نعرف كم كانت أولغا قويّة. لقد كانت امرأة رائعة، وقد نظم إيفان عددًا قليلًا من أشعار الحبّ عنها، إلا أنّه في المقابل ترك الكثير من قصائد المعاناة عن الآلام الناجمة من فراقهما. وقد شحذ ألم فقدان الحبّ أغانيه، وأعطاها زخمًا كبيرًا، وأنتج بالتالي الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة". أو كما جاء على لسانه يومًا: "أقول لكم الحقيقة، أنّني أحببتها، بالطريقة التي أستطيع فيها أن أحبّ".
توفيت أولغا روشكيفيتش في 30 أيار/ مايو 1935، وكان آخر طلب لها أن تُدفن معها في قبرها رسائل إيفان إليها، وأن توضع كوسادة تحت رأسها. فقد كانت تلك الرسائل، المبللة دومًا بدموعها، أثمن الكنوز في حياتها. وقد قال فيها إيفان، في قصيدته البوحية، في القصيدة التاسعة من القبضة الثالثة من ديوانه "الأوراق الذابلة" سنة 1896:
مُنِحتُ الحُبَّ في عُمريْ ثلاثًا كُنّْ:
كزنبَقَةٍ بلونِ الطُّهرِ أولاهنّْ
كنسجِ الآه أحلامًا بفيء رجَاءْ
كظلِّ فراشةٍ فضِّيَّةٍ غُسِلَتْ
بعنبَرِ بَرقِ نوَّارٍ مُذِ ارتحَلَتْ
إلى سُحُبٍ كساها الأُرجُوانُ رداءْ
ولَمْ تَرَ في الدُّنَا شيئًا سِوى الجنَّةْ
براءةُ طِفلَةٍ للعَيشِ مُمتنَّةْ
تُزهِّرُ مثلَ مَوطِنِنَا بكلِّ عطَاءْ ...
---
هوامش:
1. الإمبراطورية النمساوية المجرية (اسمها الكامل: الممالك الممثّلة في المجلس الإمبراطوري وأراضي تاج القديس ستيفانوس). ولدت مع تسوية العام 1867 بين نبلاء المجر ومملكة هابسبورغ، للحفاظ على الإمبراطورية النمساوية القديمة. تمتعت المجر داخل الإمبراطورية بحكم ذاتي في العلاقات الدبلوماسية والدفاع. ضمّت شعوبًا مختلفة تحدّثت باللغات الألمانية، التشيكيّة، البولنديّة، الأوكرانيّة، الرومانيّة، الكرواتيّة، البوسنيّة، والسلوفاكيّة.
2. مملكة غاليسيا ولودميريا (أو غاليسيا فقط) عاصمتها مدينة لفيف (لفوف). منطقة تاريخية مقسمة اليوم، بين بولندا وأوكرانيا. كانت بين عامي 1772 و1918، المقاطعة الأكبر مساحة والأكثر سكاناً في الإمبراطورية النمساوية المجرية، وتقع أقصى أراضيها ناحية الشمال. بقيت تحت لواء الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
3. المقاطع الواردة نظمًا من القصيدة مصدرها: الأوراق الذابلة – دراما غنائية (1886-1896)، إيفان فرانكو، تعريب عماد الدين رائف (بيروت – كييف: دار دولبي، 2017) ص ص 90 – 91.
---
المصدر: أبعد من الشرق - أوراق أوراسية في التفاعل الثقافي، عماد الدين رائف (القاهرة: المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم، كانون الثاني/ يناير 2020).