الحبّ الثاني.. الأميرة الفخورة
حياة إيفان فرانكو العاصفة نضاليًّا رافقتها حبيبات كتب فيهن وإليهنّ أشعاره باللغة الأوكرانية، وهو أحدُ آباء اللغة الأوكرانية الحديثة، التي أرسيت معالمها النحوية والصرفية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وبعد حكاية حبّه الأوّل الكبير ومشاعره الجيّاشة التي خص بها أولغا روشكيفيتش، يعاجله حبٌّ آخر.. يأتي إليه سريعًا خفيًّا، وكذلك لا يمكنه الوصول إليه بسهولة، كما لو أنَّه شعلة قداسة تحمل معها فصل الصيف. في رسالته إلى الكاتب والمستشرق الكبير أغاتانغل كريمسكي (1871-1942)، يتذكر فرانكو، يقول: "لقد ترك تعرّفي إلى فتاة بولونيّة اسمها يوزيفا دزفونكوفسكايا في النفس انطباعات عميقة. لقد أردت أن أتقدم بطلب يدها لأتزوّجها.. لكنها، في البداية، لم تكن متصالحة مع نفسها، فأبعدتني عن قلبها ثم ما لبثت أن توفِّيت بعد بضع سنوات".
كانت يوزيفا دزفونكوفسكايا ابنة عائلة مهاجرة، من العائلات التي نزحت قسرًا بعد مشاركتها في الانتفاضة الفاشلة في الإمبراطورية المجرية النمساوية، في العام 1863. وكان التيه لسنوات طويلة في أصقاع أوروبا مصير تلك العائلات، التي تنتمي إلى طبقة النبلاء المحليين في مملكة غاليسيا التاريخية. وفي نهاية المطاف، عفت الإمبراطورية عن تلك العائلات وسُمح لها بالعودة للاستقرار في مدينة ستانيسلاف. وفي الواقع لم يكن إيفان فرانكو وحده من وقع في حبّ يوزيفا، بل كل أعضاء مجموعته كذلك، لكن الفتاة لم تكن لتبادل أحدًا منهم مشاعر الحب. ومع ذلك أحبّ إيفان يوزيفا دزفونكوفسكايا حبًّا قويًا صادقًا وجارفًا، وراسلها وراسلته، وقرّر في نفسه أنّ هذه المرأة يمكنها أن تحتل مكان أولغا روشكيفيتش، أو أنّها الوحيدة التي يمكنها أن تكون امرأته بحق.
ومرّة تجرّأ إيفان، ففام بتوجيه رسالة إلى أمّ يوزيفا، السيّدة أنتونينا دزفونكوفسكايا، يطلب فيها منها يد ابنتها رسميًّا، لكن يوزيفا رفضت عرض إيفان بشدّة. وكان يعتقد أن السبب الحقيقيّ الكامن وراء رفض طلبه هو انتماء الفتاة إلى الطبقة الأرستقراطية، وهو ما كان يمنعها من الزواج بشاب من طبقة الفلّاحين. وقد عانى إيفان جرَّاء ذلك معاناة شديدة. لكن السبب، كما ظهر في وقت لاحق أن يوزيفا كانت مريضة، مصابة بمرض السلّ.
وفي نهاية حياته، لمّا أحسّ إيفان أنّ أيامه معدودة، أراد جمع القصائد التي نظمها عن يوزيفا دزفونكوفسكايا وعن حبّه لها، وأن يطبعها في ديوان خاص يمجّد حكاية حبّه العذري ذاك. لماذا؟ ربّما لأنَّه أحسّ بما كانت تحسّ به هي، حيث كانت مريضة تعيش بين أناس أصحّاء يعيشون ويحبّون ويطربون للحياة. أمّا هي فقد كانت مجبورة على انتظار لحظة موتها، ولم يكن بإمكانها أن تقف في طريقه. وقد رفضته ورفضت حبّه لمصلحته. وهو بدوره، كما كان يعتقد، كان بإمكانه فعل الأمر نفسه.. من أجلها. وقد قال إيفان في قصيدته عن يوزيفا
... ووُسْطاهنَّ مِن فخرِ الأميراتِ
كما القَمَرُ الوحيدُ شُحوبُها عاتِيْ
منَزَّهةٌ مُمَنَّعَةٌ بِفيضِ بَهاءْ
يَدِيْ لمَسَتَ، وصوتُهَا هامِسُ المَرثَاةْ
"رهِيْنَةُ وِحدَتِيْ.. لا أنتَميْ لِحيَاة"
وفي عتمِ الشُّقُوقِ تبخَّرَتْ كهبَاءْ
---
المصدر: أبعد من الشرق - أوراق أوراسية في التفاعل الثقافي، عماد الدين رائف (القاهرة: المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم، كانون الثاني/ يناير 2020).