تصدرُ ترجمتي العربية لديوان «سعف النخيل» لرائد الاستشراق الأوكراني أغاتانغل كريمسكي في كييف، عن دار «دوليبي»، وتعرَض للمرّة الأولى في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» بدورته الثالثة والستين، فأكون بذلك قد أُنهيتُ رحلةً أخرى مع رائد الاستشراق الأوكراني أغاتانغل كريمسكي، وتحديداً مع القصائد التي كتبَها بين بيروت وجبل لبنان، في العامين ١٨٩٧ و١٨٩٨. يحمل الديوان عنوان «قصائد لبنانية»، فبعد مجموعة «قصص بيروتية» (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠١٧)، التي صدرتْ قبل عامين وبعد عشرات المقالات والأبحاث والمتابعات في رحاب الأدب الأوكراني، ها أنا أتقدّم خطوةً أخرى من أدب هذا الشابّ الذي حلّ في بلادنا على عتبة القرن العشرين، فعشقَها ورسم طبيعتها وناسَها بكلماته.
وُلد أغاتانغل كريمسكي سنة ١٨٧١، هو رائد الاستشراق الأوكرانيّ، عالِم بالدراسات العربية والتركية والفارسيّة، كاتب ومؤرّخٌ ولغويّ وأنثروبولوجيّ أتقن عدداً كبيراً من اللغات، وترك مئات الكتب والأبحاث والدراسات. أحد مؤسّسي «أكاديمية العلوم الأوكرانية» وسكرتيرها الدائم، قضى نحبه بعد اعتقاله وترحيله في معسكر سوفياتي في كوستاناي (كازخستان) شتاء العام ١٩٤٢.
جاء كريمسكي إلى بيروت في بعثة علمية من «معهد لازريف للغات الشرقية» لدراسة اللهجات الشامية بين العامين ١٨٩٦ و١٨٩٨، فسكن نحو سنتين في حيّ الرميل عند أسرة زميله ميخائيل يوسف عطايا (١٨٥٢ - ١٩٢٤)، وقضى فصل الصيف في العام ١٨٩٧ في الشوير وجوارها مع أسرة عطايا. ترك كريمسكي عن بلادنا مجموعة «قصص بيروتية»
(كييف، ١٩٠٦)، وديوان «سعف النخيل» (لفيف، ١٩٠١)، ومجموعة كبيرة من الرسائل
طبعت في كتاب «رسائل من سوريا ولبنان» (كييف، ١٩٧٢)، و«رسائل من لبنان» (موسكو، ١٩٧٣).
الغربة والعزلة والجمال
وصف كريمسكي ديوانه «سعف النخيل» بأنّه أشعار غرائبية «أكزوتيكيّة»، صبّ فيها تجربته الشعرية الناضجة، في أربع مجموعات صغيرة، كتبَ ثلاثاً منها في لبنان هي: «على جبال لبنان»، «وحيد في غربتي»، و«حبٌّ آثم»، شكّلتْ صلب ديوانه الأوّل. اتخذ الديوان حلّته النهائية سنة ١٩٢٣ (كييف) في ثلاثة أقسام، وقبْلها سنة ١٩٠٨ (كييف) في قسمين، والديوان بطبعة ١٩٠١ (لفيف) يعتبر اليوم قسماً أوّل من «سعف النخيل»، الذي أعيد طبعُه في العام ١٩٧١ (كييف) بأقسامه الثلاثة. وعلى الرغم من أنّه كانت لديه محاولاتٌ شعريّة قبل رحلته اللبنانية، إلّا أنّ كريمسكي مَدين لبلادنا بولادته كشاعر، حتى أنّ قصائده التي نظَمها خلال عقدين من الزمن وأضافها إلى ديوانه تزخر بالدوافع الشرقيّة مانحةً القارئ تلمّسَ لذّة المشاعر عينها التي انتابت كريمسكي شابّاً في بيروت. ولا عجب في ذلك، فإنّ كريمسكي أحبّ بيروت وسحرتْه طبيعةُ لبنان الجبلية. وقد استلهمَ قصائدَ ديوانه، كما يقول، «من هدير أمواج بحر بيروت ومن حفيف سعف النخيل على شاطئها وفي جوار القدس»، التي زارها قبيل عودته إلى دياره.
نتلمّس في المجموعات الثلاث العشقَ والغربة والعزلة والجمال، ويمازجُ بينها كريمسكي، بعدما اختبر تجربة حبٍّ مؤذيةً لمشاعره تترافق ونظْمَه القصائد. وبعد غياب المحبوبة يقع تحت وطأة شعورٍ ثقيل بوحشة الغربة، فينقذه جمال الطبيعة الآسر ويردّه إلى وعْيه لبرهةٍ قبل أن يعود إلى دوّامة المعاناة من جديد، يرسمها شعراً على «سعف النخيل»، وهي «قصائد فائقة الأصالة»، على ما وصفَها الشاعرُ الأوكرانيّ الكبير إيفان فرانكو.
ليست لغة كريمسكي سهلة نثراً فكيف بها وقد سكبها في قالب شعريّ يحاكي المعاناةَ فيصوّر وطأة مشاعر ألم الهجر والحنين حيناً أو ينمّقُ بمفرداته واصفاً الطبيعة حيناً آخَر. وقد كان خيرَ مُعينٍ لي في رحلة الترجمة المعاجمُ التي أشرف عليها كريمسكي نفسه في العقد الثاني من القرن العشرين وأعيد طبعُها في كييف، حيث أهدتْ إليّ مديرة مشروع إعادة طبع الكتب التراثية الباحثة ليسا بوغوسلافسكا أربعة معاجم مهمّة، أحدها معجم روسي - أوكراني، برئاسة تحرير كريمسكي (كييف: أكاديمية العلوم الأوكرانية - لجنة وضع قاموس اللغة الأوكرانية الحيّة، طبعة أولى، ١٩٢٤)، وقد أعيد طبعه في ثلاثة أجزاء في كييف (روتاري كلوب - كييف سيتي، ٢٠١٨)، أضيفت إليه ثلاثةُ أجزاء من تصنيف العالِم اللغوي الأوكراني سيرغي يفريموف (١٨٧٦ - ١٩٣٩). وإنّي لآمَلُ أن أكونَ قد وُفّقت في الترجمة وخدمة النصّ ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً.
الحبّ الآثم
أن تكون عاشقاً غريباً وحيداً في الفردوس، تلك كانت حال كريمسكي الشابّ، الذي أحبّ ماريا ألكسييفنا كامينسكايا إحدى معلّمات «مدرسة باكورة الإحسان» الأرثوذكسية للبنات، التابعة لجمعية زهرة الإحسان في بيروت، أو «المعهد الأرثوذكسي للفتيات»، كما يسمّيها. المعلّماتُ وافداتٌ من «مدرسة ستويونينا الداخلية» في سان بطرسبورغ، ضمن برامج «الجمعية الإمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة»، التي كانت لها مدارسُ ودُورٌ للمعلّمات والمعلّمين ومؤسّساتٌ تعليميّةٌ وصحيّة ومساكنُ للحجّاج في فلسطين وسوريا ولبنان. ويَظهر من رسائل كريمسكي إلى أهله أنّ ماريا كانت شابّةً جميلة مثقّفة، ومن أصولٍ بولونيّة شأوكرانيّة معروفة. في البداية، كانت الأحاديث عامّةً بين كريمسكي والمعلّمات تدور بشكلٍ رئيسٍ حول كرْه المعلّمات المتزايد لطبيعة البلاد. كان كريمسكي يزورهنّ بين الثالثة والنصف والخامسة والنصف من عصر كل يوم، أي خلال فترة الاستراحة من الدروس. وقد شكّلتْ رحلتُه اليوميّة من مسكنه في حيّ الرميل إلى المعلّمات المتنفّسَ اللغويّ السلافيّ الوحيد بالنسبة إليه، حيث يبادلهنّ الحديثَ بالروسيّة، التي يقول في إحدى رسائله إنّه يكادُ ينساها. ومع الزيارات المتكرّرة إلى المعهد، ترتسم معالم قصة حبّه لماريا. بدأتْ بإعجابٍ، ثم عشقَها سرّاً، وكانت ذروةُ القصّة أنْ طلبَ يدَها للزواج في مشهدٍ كاريكاتيريّ، فجُوبهَ برفْضها له. يروي كريمسكي، في رسالة إلى أهله بتاريخ ٢٥ تشرين الثاني / نوفمبر ١٨٩٦:
«آخر كلمة قالتْها لي على الباخرة قبل سفرها للإجابة عن السؤال عينِه (طلب الزواج) كانت: هل فقدتَ عقلك؟ حدثَ ذلك قبل ثوانٍ قليلة من إقلاع الباخرة. ثم ودّعتُها وقبّلتُها وتمنّيتُ لها سفَراً سعيداً، وكنتُ آخرَ مودّعيها. كنتُ أودّ مناقشتَها في الأمر غيرَ أنّ مساعد ربّان السفينة جاء مسرعاً وصاح بأعلى صوته على المودّعين أن يغادروا الباخرة فوراً! لقد أطلقت الصفارة الثالثة. نزل جميع المودّعين مهرْولين، وتحرّكت الباخرة إلى الشمال وتحرّكَ زورقُنا إلى الشاطئ. وظلّتْ كامينسكايا على ظهر الباخرة تنظر إلينا... أمّا أنا فشخصتُ بنظري إلى الماء ولم أنظر إلى الباخرة المبتعِدة التي استدارتْ على نفسها ولم نعُد نرى كامينسكايا. في الزورق لفّنا صمتٌ عميقٌ قطعتْه رئيسةُ المعلّمات الروسيّات المسنّة ي. أ. شميدت بقولها: عرضُ زواجٍ على أنغام الصفّارة الثالثة! هل يفعل ذلك إنسانٌ ينتسب إلى شعبٍ عريق... ويحدث هذا في بيروت بالذات؟ إنه الجنونُ بعينه! حسناً أعترفُ بأنّي فقدتُ عقلي... ومهما يكنْ من أمرٍ، لم يمرَّ ذلك الانتقادُ من دون فائدة لي. فالانتقاد اللاذع للإنسان علاجٌ ناجع. على كل حال ماريا كامينسكايا ليست طبيعيّة تماماً، إذا لم أقلْ إنّها نصفُ مخبولة».
نعم، «نصف المخبولة» ماريا أفقدت كريمسكي الشابَّ عقلَه، فبات في الفردوس البيروتيّ شتاءً وفي الشوير صيفاً هائماً على وجهه في جمال الطبيعة، يعاني من الوحدة ويشعرُ بغربةٍ حقيقيّة.
العودة إلى الشوير
بعدما عاد كريمسكي إلى بيروت مع ترجمةِ قصصه البيروتية، عاد مرّةً أخرى إلى الشوير بعد ١٢٢ عاماً على قضائه فصل الصيف فيها، حيث تضافرتْ جهودٌ عديدةٌ في ذلك، عبر معرضٍ للوثائق التاريخية بعنوان «أغاتانغل كريمسكي في الشوير»، بعدما فتحتْ اتفاقيّة التعاون التي وقّعها رئيسُ بلديّة ضهور الشوير وعين السنديانة حبيب مجاعص مع مديرة «متحف أرشيف الدولة الأوكرانيّة المركزي للآداب والفنون» الدكتورة أولينا تشيجوفا، الطريق أمام مشروع متحف كريمسكي في السوق العتيق في ضهور الشوير، الذي سيضمّ وثائقَ من متحف أرشيف الدولة ومن «معهد المخطوطات في مكتبة فيرنادسكي الوطنية الحكومية» بكييف. واليوم، إثر المعرض الذي نظّمتْه السفارةُ الأوكرانية بتاريخ ٢٧ حزيران / يونيو الفائت، بشخص السفير إيهور أوستاش ومنظِّمة المعرض الكاتبة والمؤرّخة الدكتورة مارينا هريميتش، تتزيّن قاعةُ مكتبة البلدية بتمثالٍ نصفيٍّ لكريمسكي أبدعتْه يدُ النحّات اللبناني العالمي بيار كرم، في انتظار نقله إلى المتحف. من أبرز المعروضات: الوثائقُ، ومنها البطاقاتُ البريديّةُ التي أرسلَها كريمسكي من الشوير صيف العام ١٨٩٧ إلى أهله في أوكرانيا، والرسائل، وأهمُّها رسالةٌ تتحدّث عن طبيعة جبل لبنان الساحرة، بالإضافة إلى مخطوطات كريمسكي الأولى لمجموعة «قصص بيروتية» - ١٨٩٧، وأغلفة الطبعات الأولى من أعماله التي أنجزَها في لبنان، وبطبيعة الحال «قصائدُه اللبنانية».
«قصائد لبنانيّة»
يضمّ ديوان «سعف النخيل» أربع مجموعاتٍ صغيرة، كتَبَ ثلاثاً منها في لبنان هي: «على جبال لبنان»، «وحيد في غربتي»، و«حبٌّ آثم»، أما الرابعة فقد أنهاها في القوقاز، وحملتْ عنوان «حبّ بَشريّ». وهذه مختارات من الديوان:
- ألمُ الهَجر -
كقطرتين في بحرٍ هائج،
كان لقاؤنا في سوريا
واجتاحتْنا موجةٌ لا ترحم،
وها نحن قد افترقْنا إلى الأبد
أنا مرّة أخرى في غربتي،
ولن نلتقي من جديد أبداً،
وقلبي المتألّم يثقل على صدري ويئنّ
آه من القدَر... آهٍ من القدَر.
- غريبان في الفردوس -
تتعانقُ النّخلاتُ والسّرواتُ
والغارُ مختالاً يغازلهنّ
متشامخاتٌ للسماء برؤوسهنّ
والزَّهرُ في سحر الرّبيع صلاة،
وأنا أميل بنشوتي ثملاً
حولي شجيراتٌ من النّارنج في الغابة السّحريّة
وتحين منّي التفاتةٌ فأرى سنبلةَ جودار خجولةً،
قد ظلّلتْها نخلةٌ بحَنان
همستْ، فدوّى صوتُها في مهجتي:
يا ابن بلدي،
غريبان نحن في هذا الفردوس
ما الذي أتى بنا إلى هنا؟!
- لبنان المقدس -
نغمٌ حلوٌ عزيزٌ
اسم لبنان... اسمٌ مقدّس
فوق قمّة جبله على الغيوم
أحلّق في الصيف
لا نخلة هنا، ولا شجرة برتقال
في الطبيعة الثلجيّة
فقط حين تسطع الشمس
يولد العشب
تحت الثلج يرتعش تيّار
وأنا هنا ليومٍ كامل
أتعلّم من الفلّاحين
اللبنانيّين أغنياتِهم.
أتبع معهم قطعانَهم
أستمعُ إلى حكاياتهم
أجمع، أحياناً، بعضَ الحطَب للمَوقد
أضيفه إلى النار تحت القدْر.
سنجتمع في المنزل ليلاً
وأنا أحدُ أفراد العائلة
سيهجم عليّ الأطفال
وسأعانقُهم.
أمزح مع الأطفال مثل طفل
والقمر يضحك لي بحبور.
وها أنا الآن صامتٌ
وبهدوئي سأهدّئهم
عندها أسمعُ من الأطفال
سؤالَهم اللطيف:
ما الذي ينتابُكَ يا عمّ أحياناً،
فيمتلكُك الحزن؟
- بيروت من صنين -
تسلّقتُ القمّة... كانت دونَها الغيوم
نظرتُ إلى الأفق حيث بحر بيروت
هنا أنهارٌ جليديّةٌ شتاءً، وهناك لسعةُ نار الشمس
أنا على حافة غريبة، زاوية فردوسيّة رائعة
تتمايل بيروتُ كحوريّةِ الجنّة، ميساء مشرقة
تنتصبُ النخلاتُ على سجّادة الزنبق
وتبثّ شذاها الدافئَ المخدّر
زهرَ مسك الرّوم المسكر والسحلبيّة المتخايلة.
أنظر إلى لبنان، هنا، حيث يتنفّس البرد
حيث القوسُ الجبليّةُ الخضراء والندى الساحرُ
بساتين تكتسي بالزهر تتدثّر بالربيع
هنا، خلف السحابة حيث أختبئ،
ثلوجٌ عميقة عميقة، وصخورٌ جليديّة
من تحت القوس طارت حشرةٌ زرقاء
مرّت بي بهدوء، وأهدتْ لي ابتسامة
في ظلّ أرزةٍ هنا، تنازعُ زهرةً شاحبة
تصارع جليداً عنيداً يحاصرها بغضب
هو ذا حبّي ينازع ويحترق بهدوء
وحريقه يُلهِب كياني كلّه.