"الأوكران ولبنان".. ألفا سنة في كتاب وفيلم وثائقي

يعتبر كتاب "الأوكران ولبنان" للبروفيسور إيهور أوستاش، الذي يشغل منذ نحو أربع سنوات منصب سفير أوكرانيا في لبنان، الدراسة الأكثر اكتمالاً عن التاريخ الثقافي الإنساني المشترك بين الشعبين اللبناني والأوكراني، وتغطي الكرونولوجيا الزمنية فيه نحو ألفي سنة من تاريخ العلاقات. بعد صدور النسخة الأوكرانية قبل نحو شهر، أبصرت النور مؤخراً ترجمَتي العربية له عن دار دوليبي في كييف، وستنظم لها وللكتاب الأصلي قريبًا ندوات في بيروت وعدد من الجامعات اللبنانية. الملفت في العمل التوثيقي أنه يترافق مع صدور فيلم وثائقي يحمل العنوان عينه، يتماثل مع الكتاب من حيث المحتوى التوثيقي، ويزيد عنه بعرض عدد كبير من المشاهد التي التقطت في البلدين، للأماكن التي جرت فيها أحداث الدراسة وتفاعلت معها شخصياتها.

التاريخ المشترك
تظلل الكتاب فكرة أن التاريخ الثقافي والإنساني المشترك بين شعبين، يبنيه أولئك الأشخاص الذين رمت بهم أقدارهم بين أبناء هذا الشعب أو ذاك، وتكون مصائرهم قررت عنهم ما لم يتخيلوه أحيانًا، فيتفاعلون في بيئتهم الجديدة ويتميزون ويتركون لنا آثارًا خالدة تتحدث عنهم. ينطلق الكتاب من الرابط بين الشهيدة العظيمة بربارة، المولودة في بعلبك، وبين كييف، حيث يُحتفظ بذخائرها في كاتدرائية فولوديمير، ويحكي عن نشر الكتاب المقدس باللغة العربية سنة 1708، بدعم من الهيتمان الأوكراني إيفان مازيبا لبطريركية أنطاكيا.. ثم يتتبع المسارات الطويلة التي سلكها الرحالة والكاتب فاسيل هريهوروفيتش بارسكي عبر لبنان في بداية القرن الثامن عشر، وترك خلفه وصفًا فريدًا لموطن الأرز، حيث استمرت رحلات بارسكي لنحو ربع قرن من الزمن، زار فيها معظم المناطق اللبنانية انطلاقًا من الديار المقدسة في فلسطين، وكان ينتقل من مكان إلى آخر على قدميه، فحل في صور وصيدا وبيروت وجبيل واستقر في طرابلس مدة، ثم زار معظم أديرة جبل لبنان، وحل في بعلبك قبل أن ينتقل إلى دار البطريركية الأرثوذكسية في دمشق. وعلى الرغم من أهمية الوصف الذي تركه لنا بارسكي في كتابه الموسوعي "الرحلة إلى الديار المقدسة في الشرق من 1723 إلى 1747"، إلا أن الأهم وصفه تقاليد الناس وأعرافهم وأحوال الطرق ومعاناته الشخصية أثناء تنقلاته بين المدن في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد كُرّم هذا الرحالة قبل سنتين برفع لوحة تذكارية له في مدينة جبيل.

كما يعرض الكتاب القصة الغامضة والساحرة لزيارة ابن بولتافا الكاتب نيقولاي غوغول إلى بيروت، ورسائله التي كتبها فيها وعلاقته بالقنصل العام والكاتب قنسطنطين بازيلي، ثم رحلة غوغول الشهيرة إلى القدس مرورًا بصيدا وصور. ويتوقف عند سيرة الأديب ميخائيل نعيمه، الذي حمله قدره إلى مدينة بولتافا ليتابع دراسته في السمنار الروحي التابع للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية بين 1906 و1911، ويروي قصة حبه بالفتاة البولتافية فاريا، ثم يعرض لأعمال نعيمه التي ربطته بأوكرانيا، وعلى رأسها ترجمته العربية لقصيدة "الميثاق" لشاعر أوكرانيا تاراس شيفتشينكو، التي ترفع لها لوحة تذكارية أخرى، في ذكرى ولادة شيفتشينكو في آذار/ مارس المقبل، في الحديقة الأوكرانية في بعبدا. 

شريط مصوّر 
فيلم "الأوكران ولبنان" الوثائقي، للمخرج الشاب ستانيسلاف ليتفينوف، عبارة عن رحلة ذات طابع خاص في فضاءي المكان والزمان، تتتبع مصائر أشخاص بنوا تاريخ العلاقات المشترك بين البلدين، والفيلم المبني على دراسة البروفيسور أوستاش، مدته الفيلم ثمانون دقيقة، ومدير إنتاجه ميخايلو شيليست. يظهر الكاتب أوستاش في الفيلم كأحد أولئك الذين يروي عنهم في كتابه، فقد ساقه القدر كذلك إلى لبنان، وحاول أن يستغل كل لحظة من وجوده فيه للعمل على إحياء الروابط الثقافية المشتركة والعلاقات الإنسانية بين البلدين، وهو ما يظهر جزئيًا في فصل من الدراسة كذلك.

ويتحدث في الفيلم كراو عن مصائر كوكبة بارزة من الفلاسفة، والكتّاب، والعلماء، والدبلوماسيين، والناشطين الثقافيين الأوكرانيين، ومن بينهم المستشرق الكبير أغاتانغل كريمسكي، والسياسي فلاديسلاف تشايكا تشايكوفسكي (المتصرف مظفر باشا)، وعن القنصل الفخري الأول في سوريا ولبنان إبان الانتداب الفرنسي البروفيسور ألكسي بوهوليبوسكي، والعندليب الأوكرانية فنانة الأوبرا العالمية ليديا ليبكوفسكا التي دعيت للتعليم في الأكاديمية اللبنانية للفنون ودفنت في بيروت، وابن مدينة خاركيف الحائز على وسام الأرز الوطني من رتبة فارس إيفان روبينسكي الذي قضى حياته العلمية في الجامعة الأميركية في بيروت، وعن الطوابع البريدية اللبنانية ذات الأصل الأوكراني التي أبدعتها ريشة المهندسة سابينا دوبروفولسكا وزوجها ميخائيل بورادا، وغيرهم، فضلاً عن كثير من الفنانين الأوكرانيين المعاصرين في لبنان، ومن بينهم النحات والشاعر ميخايلو هورلوفي والعلاقة التي تجمعه بالنحات اللبناني العالمي بيار كرم، وكذلك النحات فاسيل بيك الذي أبدع نصب اختطاف أوروبا، وعازفة البيانو العالمية تاتيانا بريماك الخوري، وفنانة المنمنمات الأولى في المشرق ناتاليا دزيادك حبيب، وغيرهم.

وتأتي الإضاءة على التفاعل الثقافي الحديث بين البلدين، كجزء من العمل التوثيقي للكاتب أوستاش، من منطلق إنهاء آلاف الشبان اللبنانيين دراستهم الجامعية في أوكرانيا، سواء إبان الفترة السوفياتية أو في فترة الاستقلال الحالية، واستمرار هذا التقليد اليوم مع توجه مئات اللبنانيين للدراسة في المؤسسات التعليمية الأوكرانية، ما يوحي للقارئ والمشاهد معًا أن الكتاب والفيلم يشكلان المدماك الأول في لتدوين التاريخ الثقافي والاجتماعي بين الشعبين.