وُلدت قبل مئة وتسعة وأربعين عامًا، وعلى الرغم من أنها عانت من مرض خطير طوال حياتها، إلا أنّها قدّمت كمًّا لا يصدّق من الجهد في خدمة الثقافة الأوكرانية، ما جعلها تصل إلى مستوى عالمي في تاريخ هذه الثقافة بشكل عام، وفي الأدب على وجه الخصوص. للوهلة الأولى تظهر ليسيا أوكراينكا في صفوف الكتّاب بالمجمل كواحدة منهم، إلا أن فرادتها تظهر ما إن تبدأ بقراءة نصوصها بعناية. ومن الأمور التي يجب مراعاتها وقراءتها رسائل ليسيا، فهي إلى جانب أعمالها الأدبية وصورها الفوتوغرافية الكثيرة (نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين)، تعتبر تحفًا أدبية. أحبّت ليسيا المراسلة، وتواصلت بشغف مع جميع أقاربها ومعظم أصدقائها، وقد تضمنت هذه المروحة معظم المثقفين الأوكرانيين الواعدين على الصعيد الوطني، فمن السهل من خلال هذه الرسائل فهم ما عاشته النخب المثقفة في تلك المرحلة، ولماذا تحولت لاريسا كوساتش إلى حمل لقبها الأدبي المستعار "ليسيا أوكراينكا".
أن تولد في عائلة كوساتش
كانت ليسيا محظوظة بعائلتها، مثلما كانت عائلتها محظوظة بها. أسرة كوساتش كانت مثالية في زمانها، فقد ارتبط بيترو أنطونوفيتش، المحامي والمستشار الحكومي، بشقيقة صديقه النبيل ميخايلو دراهومانوف، أولها (أولغا)، خريجة "معهد الفتيات النبيلات النموذجي" في كييف. نتيجة الزواج، كان لديهما ابنان وأربع بنات، ولدوا كلهم في جو من الحب، ونموا في جو من الحب، وتعلموا الحب الحقيقي. ليس الحياة والإبداع فحسب، بل أيضًا حب الوطن، أو بتعبير أدق تعلموا حب الوطن أولا، ثم الحياة والإبداع. ولا يمكن للأمر أن يكون خلاف ذلك، فأولها (التي حملت اسم عائلة كوساتش بعد الزواج، والتي عرفت في الأوساط الأدبية باسم أولينا بيتروفنا) كانت لديها بصمة واضحة في العمل المجتمعي على تنمية الحس الوطني الأوكراني. وقد بثّت هذه النزعة، بطبيعة الحال، في أطفالها، الذين نموا وطنيين. وقد تعاملت أولها كوساتش بشكل مثالي مع المهمة التي ألقتها على عاتقها، وقد قام زوجها (الذي كان ناطقًا باللغة الروسية للمناسبة) بتمويل جميع مشاريعها، وخاصة تلك التي تهمّ ليسيا.
كانت ليسيا الطفلة الثانية في الأسرة، والإبنة الكبرى، وكانت لديها آمال كبيرة، لاسيما كعازفة بيانو. ربما كانت لتغدو عازفة مميزة، لكونها تمتعت حقًا بقدرات استثنائية، لكن لعبة القدر كانت قاسية مع ليسيا، فقد أصابها بما سمّي بـ "سل العظام". من أين أتى هذا المرض إلى ليسيا؟ لا يسعنا الآن سوى أن نتكهن، فقد ذكرت أختها الصغرى، أن كل شيء بدأ عندما تبللت قدما ليسيا وأصيبت بنزلة برد، وذلك عندما كانت تشاهد مباركة مياه المعمودية. إذا كان ذلك صحيحًا، كان الحري بأولها كوساتش أن تكره ذلك اليوم، لأنه أعاق طموح ابنتها ووضع حدًا لمستقبلها كعازفة بيانو. والأمر الذي أرعب أولها على وجه التحديد هو مستقبل ليسيا بشكل عام.
عالج آل كوساتش ابنتهم ليسيا طوال حياتها، ولحسن الحظ كانوا ميسورين، وكانت ليسيا صبورة. تطلبت عظامها التواجد في البلدان الدافئة والمناخات الدافئة وهواء البحر، طلبًا للحرارة وأشعة الشمس. جسديًا، كانت ليسيا مريضة طوال حياتها، منذ العملية الأولى التي أجريت في ذراعها والتي نجت من مضاعفاتها وهي صغيرة. كانت تتعايش مع آلامها، وتسير معها في درب الحياة يدًا بيد، كما اعترفت ليسيا عندما كبرت في إحدى رسائلها إلى والدتها، فهي لم تكتب شيئًا عن ذلك لفترة طويلة لأن "الشفقة ستكون سيئة بالنسبة إليها في ذلك الوقت، فوصف الحال سيكون محزنًا، أما أن تكذب بشأن حالها فسيكون مخجلا".
كان والداها وأقاربها يروحون عنها، فيخففون من ثقل آلامها الجسدية بحبهم غير المحدود لها، وبمنحهم إياها فرصة اكتساب معارف جديدة، فعاشت ليسل حياة غنية ونابضة بالحياة. فتحت أمامها فرص الوصول إلى الكتب، والتعرف إلى الأشخاص المثيرين للاهتمام، والسفر، واكتشاف الحياة، فاستوعبت نفسها تجارب جديدة وانفتحت على عوالم أخرى، فتكون لديها رأيها الخاص في كل ما في العالم من أمور.
امتلاك الشجاعة يعني امتلاك رأيك الخاص
كانت أولينا بيتروفنا خائفة من أن المدرسة ستخرب ثقافة أطفالها، فنظمت لهم تعليمًا منزليًا. وقد شمل التعليم المنزلي في أسرة كوساتش قواعد اللغة، والرياضيات، والعلوم، والفنون. فتعلم أطفالها منذ البداية ما نسميه اليوم التفكير النقدي. تعلمت ليسيا منذ نعومة أظفارها تشكيل رأيها الخاص، وكانت لديها الشجاعة للتعبير عنه. وإذا لزم الأمر كان من المنطقي دحض حجج الخصوم وإدراكها. كتبت ليسيا في إحدى رسائلها: "ربما كان ليسعدني أن يتحول شعوري من عدم الثقة إلى التعاطف، لكن ذلك لن يكون مبنيًا على التفكير". وأوضحت أنه كي تتغير وجهة نظرها تجاه أمر معين، فإنها بحاجة إلى الاقتناع بوجود الأسباب الموجبة لذلك. وما كانت تتحدث بصوت عال وصريح عن الآخرين فحسب (على سبيل المثال لم تخف عدم رغبتها في قراءة نصوص ليف تولستوي وإيفان نيتشوي – ليفيتسكي)، بل كانت تدعو إلى النقد العلني أيضًا. في رسالتها إلى الصحافي والناقد أوسيب ماكفوي، الذي كان أرسل إليها بمبادرة منه قراءته النقدية لديوانها الشعري "على أجنحة الأغاني"، كتبت: "أنا في الواقع سعيدة لأن قصائدي تسببت في محادثة نقدية... ربما يشكل النقد ضرورة للقراء من الناس، أكثر منه للكتاب أنفسهم. تفتقر أدبياتنا إلى الكثير من الأشياء، لكنها تفتقر أكثر إلى النقد البناء والموهوب".
حسنًا، ما ينقص ن الضروري استكماله. بالإضافة إلى النقد والتفكير النقدي، كان الأدب الأوكراني، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يفتقر إلى اللحاق بالركب العالمي. فالأدب وكتابه كانوا يدورون حول أنفسهم، ويعيدون مئة مرة صياغة قصص الحياة الشعبية عينها. وهنا، أفادت ليسيا أوكراينكا من إلمامها باللغات الأجنبية، وقدرتها على التفكير النقدي، إلى جانب قدرتها على الاستماع إلى النقد، وتملكها الشجاعة لصياغة رأيها الشخصي وعدم رهبتها من تعميمه.
جميع الأوكران يتذكرون من مقاعد دراستهم كيف كتبت ليسيا بشاعرية فائقة (وليست بسيطة كما تبدو للوهلة الأولى) قصيدة "أغنية الغابة"، لكن قلة منهم يعرفون أنها كتبت الدراما النفسية الأولى "الوردة الزرقاء". وكنه هذه الدراما ليست في أبطالها الذين يحاولون فهم جوهر الحياة (ما الذي يجب أن يعيش الناس من أجله؟)، وفهم ما هو "طبيعي" وفيم يختلف عما هو "غير طبيعي"، بل في أن ليسيا تملكت الجرأة، في ذلك الوقت، للابتعاد عن الركائز التي كانت قد ارسيت في الدراما الأوكرانية. ابتكرت دراما تدور أحداثها حول المثقفين، فيما كان الموضوع الوحيد المتناول في الأدب الأوكراني هو "الشعب"، والنظرة "الشعبية"، وأذواق الناس ومقاصدهم. كانت لديها الجرأة أن تقول بشكل صريح أن النخبة يمكن أن يكون لها ذوق مختلف، واحتياجات ومطالب أخرى، بل حتى يمكنها أن ترغب بأشكال مختلفة من المؤلفات الأدبية، وموضوعات مختلفة. وقد شكّل ذلك ثورة أدبية صغيرة.
امتلكت ليسيا الشجاعة أيضًا لتفسير القصة العالمية "دون جوان" بطريقتها الخاصة. فقد دفعتها مسرحية ألكسندر بوشكين "الضيف الحجري" (إحدى "التراجيديات الصغيرة") لتأليف دراما "السيد الحجري"، حيث قاربت ثيمة غاوي النساء، من زاوية إغرائه باحتمالية حصوله على السلطة، وعلاوة على ذلك أعادت بناء حبكة "دون جوان" بحريّة كبيرة، على طول مسار السرد، مبتكرة مفهومًا جديدًا لـ"الدونجوانيّة" في بداية القرن العشرين.
حدث كل ذلك في الأدب الأوكراني، الذي كان من المفترض أنه (في رأي عدد كبير من الأوكرانيين المخلصين) أنشئ فقط للكتابة عن الشعب والناس. فمن أجل اتخاذ قرار كهذا، تحتاج حقًا إلى أن تمتلك الشجاعة. وللمناسبة، "دون جوان" ليس المثال الوحيد على الحبكات العالمية التي أدخلتها ليسيا إلى الأدب الأوكراني، حيث يمكننا تذكر كاساندرا أميرة طروادة، وموضوع روما والمسيحية في الدراما الشعرية "روفين وبريتسيلا"،، بالإضافة إلى القصيدة الدرامية "على الأطلال"، التي تحكي عن أنقاض مدينة القدس. ولا نغفل عن أنه بالإضافة إلى أعمال الدراما الأدبية، كانت لدى ليسيا مسرحيات ذات موضوعات مستمدة من حياتها الشخصية، والتي لم تكن أقل عمقًا من الحبكات العالمية.
لا يمكننا هجر الحبّ
تتوفر بين أيدينا مقتطفات معروفة عن حياة ليسيا أوكراينكا الشخصية، ومرد ذلك إلى مراسلاتها بشكل أساسي، فضلا عن كتاباتها الإبداعية، التي تنضح بمشاعر الحب لدى ليسيا. كان أول حب لها لشاب يدعى ماكسيم سلافينسكي، وقد تشاركا العمل في الترجمة. كان ماكسيم صديق شقيقها ميخايلو. وصل ماكسيم إلى ملكية أسرة كوساتش صيف 1886، حيث التقى ليسيا. ومع هذا الحب المتحمس الشبابي والذي (لأسباب غير معروفة) لم ينته إلى علاقة جدية، ولدت العديد من الترجمات من اللغات الأوروبية، بما في ذلك العمل المشترك على ترجمة أعمال هاينرش هاينه. أما بفضل حب ليسيا الثاني فقد أظهرت أعمالها أن "الكلمة بقوّة الفولاذ"، واساس هذا الحب كان كذلك عمل مشترك، لكن على دراسة اللغات الأجنبية، وتحديدًا دراسة اللغتين الفرنسية والجورجية، فقد درّست ليسيا نستور غامبارشفيلي الفرنسية، وكان قد استأجر غرفة في منزل أسرتها، وهو في المقابل درسها الجورجية. وهو من أحضر إليها من جورجيا خنجرًا حادًا كهدية ترمز إلى النضال. لكنه نستور تزوج من امرأة أخرى، ما تسبب بأسى كبير في قلب ليسيا.
لكن أساها الأكبر كان على سيرغي ميرجنسكي، البيلوروسي الاشتراكي الديمقراطي، الذي عانى من مرض السل وتوفي بين ذراعيها. التقيا صيف عام 1897 في يالطا، ووقعت ليسيا في حبه بجنون. لم يكن هذا الحب متبادلا، فقد كان قلبه ملكًا لامرأة أخرى. لكن ليسيا ذهبت إليه لرعايته قبل وفاته، وقد قضى بين يديها، وعلى سرير موته، بين عشية وضحاها، نظمت قصيدتها "الممسوسة".
تزوجت ليسيا من الإثنوغرافي والمحامي كليمنت كفيتكا، كانت حينذاك في السادسة والثلاثين من عمرها، ولم تكن تشك في أنّ أمامها نحو ست سنوات فقط للعيش. لم يكن الزواج نتيجة عشق وغرام، بل صدفة. مع أن كيفيتكا وحتى آخر عمره (عاش نحو أربعة عقود بعد ليسيا) كان يغار عليها من ميرجينسكي. استخدم كفيتكا صوت ليسيا أوكرينكا ليسجل العديد من الأغنيات الشعبية (من مقاطعتي فولين وهاديتسك الأوكرانيتين)، تلك الأغنيات التي سمعتها في طفولتها من جدتها ووالدتها، وحفظتها طوال حياتها. كما سجلا معًا على أسطوانات الفونوغراف (الحاكي) مجموعة من معزوفات الكوبزار (الكوبزار هو عازف الكوبزا – آلة وترية أوكرانية، وهو لقب للشاعر الأوكراني الكبير تاراس شيفتشينكو)، وهي التسجيلات الصوتية الأولى التي حفظت إلى يومنا هذا، وتحولت إلى معزوفات رقمية.
لم يحظ كليمنت كفيتكا بثروة كبيرة، وقد أدرك والدا ليسيا ذلك، تمامًا كما فهما أن ليسيا ستتمكن من العيش طالما يدعمانها ماديًا. لكن على عاتق الزوج تقع مسؤولية مصاريف الزوجة لا على أهلها. اضطر والدها إلى بيع العقار الذي سجله لليسيا، وأعطى المال للزوجين. لكن المال لم يكفهما لوقت طويل، وعندما نفد (بفعل قضاء مواسم الرطوبة والبرد كل عام في مصر بهدف العلاج في المصحات والإقامة في المنتجعات)، بدأت ليسيا بالاستسلام لأمراضها تدريجيًا، لكن بتؤدة.
رحلت عن دنيانا سنة 1913، توفيت في أحد منتجعات جورجيا، لكنها وحتى الأسابيع الأخيرة من حياتها كانت تسجل لزوجها تلك الأغنيات التي لم يسمح الوقت بتسجيلها.
في الواقع، لم تعش ليسيا أوكراينكا حياة مشرقة ومذهلة فحسب، بل تسنى لها أن تغير النظرة السائدة حول الأدب والثقافة الأوكرانيين، وكذلك أعطيتنا تصورًا عن حياة الإنسان، الذي لا يخشى العيش، ويواجه المشكلات المستجدة بجرأة.
===
ترجمة عماد الدين رائف. في إطار مشروع شخصي لـ "إحياء الذكرى الخمسين بعد المئة لولادة أيقونة الأدب الأوكراني ليسيا أوكراينكا".