كانت ليسيا أوكراينكا (1871 – 1913) مبدعة من الطراز الأول. تركت وراءها للناطقين بالأوكرانية تراثا أدبيا عظيمًا، فخلال حياتها القصيرة نظمت العديد من الدواوين الشعرية، وعملت على الدراما الفلسفية والنقد الأدبي، وكتبت في فن القصة، وأعادت كتابة الفلكلور، وترجمت جملة من الأعمال الأجنبية. دخلت ليسيا أوكرينكا الساحة الأدبية كشاعرة ومترجمة في البداية، ثم حازت على مجد الكتابة المسرحية، وحققت في الوقت نفسه نجاحًا كبيرة في الأعمال النثرية، ما كشف عن تعدد أوجه موهبتها. تدخل أعمال ليسيا أوكراينكا النثرية في سياق الأدب الأوكراني أواخر القرن التاسع عشر، ونلاحظ فيها توليفة من الواقعية والحداثة، وتحديثًا في الأنواع، من النصوص الصغيرة المجزأة ("الفراشة مثلا)، إلى القصة الطويلة ("الأسف"، و"المودة"). إلا أن عملها على توسيع الفضاء الموضوعي للقصة الأوكرانية عبر إضافة البعد الملحمي إليه لم يحظ من معاصريها بالاهتمامهم اللازم.
في مقاله "ليسيا أوكراينكا" (1898)، يعطي الكاتب الأوكراني الكبير إيفان فرانكو توصيفًا عميقًا للإرث الشعري لدى اليسيا، إلا أنه تعمد عدم المس بالتراث النثري مع أن عقدًا من الزمن كان قد مرّ على بداية نشرها قصصها (ومنها "هو ذا قدرها"، "في المحنة عبرة"، وكذلك القصة الطويلة التي كان قد سبق له أن قدم فيها رأيًا نقديًا إيجابيًا جدًا "الأسف")، كما أنه لم يركز على ترجماتها في مقاله التحليلي: "... قوتها ليست في الرواية، بل في الترجمة، على الرغم من أن بعضها جيد جدًا، لكنه لن يضيف أوراقا جديدة إلى إكليل الغار. موهبتها غنائية، لكنها ليست ذاتية ضيقة. تلائمها الأنواع الملحمية والدرامية، لكن فقط عندما تتشكل في قوالب منظومة قوية. الملحمة البحتة والدراما النقية لا تدخلان، على ما يبدو، في نطاق موهبتها". لا بد وأن حكم إيفان فرانكو لم يكن مبرمًا، وهو من هو في عالم الأدب الأوكراني (انطر كتابنا: الأوراق الذابلة – دراما إيفان فرانكو الغنائية. كييف: دار دوليبي، 2017). ركز فرانكو كل اهتمامه على القصائد، مشيرًا إلى الشعر الغنائي، الذي لم يكن سمة مهمة في الأسلوب الشعري لدى ليسيا أوكراينكا فحسب، بل كان إطارًا من أطر نظرتها الخاصة نحو العالم. ومع ذلك، أثبتت ليسيا قدرتها على اختراق أجناس أدبية أخرى، بينها القصائد الملحمية، والدراما المسرحية، لكن غلبت على إنتاجها الأعمال الشعرية الصغيرة والمتوسطة الحجم.
شكلت القصيدة بداية مسار ليسيا أوكرينكا الإبداعي بعد عمليات البحث المرهقة، ثم تحولت إلى النثر أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، بعدما تمكنت من احتلال مكانة في الساحة الأدبية بواسطة الشعر الغنائي. كانت الشاعرة قد تآلفت مع الكتابة الأدبية في وقت مبكر، لم يكن سلوك هذا المسار صعبًا عليها، إذ نشأت وترعرعت في عائلة رفيعة التعليم، وكانت هذه العائلة تقع في حلقات من الأقارب والأصدقاء الذين يعتبرون من الطليعة الأوكرانية المثقفة آنذاك، ومنهم، آل ستاريتسكي، ليسينكو، دراهومانوف، كوفاليفسكي، وغيرهم. تقول ليسيا أوكرينكا في إحدى رسائلها إلى أولها كوبيليانسكا (1863 – 1942): "كان يسيرًا عليّ أن ألج درب الأدب، إذ إني ولدت في أسرة أدبية، لكن ذلك لم يعفني من وخزات أشواك الشعر، فلم أؤمن بموهبتي، وخضت بحثًا مريرًا عن الطريق الصحيح بين آلاف الطرق الأخرى".
إذا كانت القضايا الفلسفية والسياسية والأخلاقية المعاصرة قد عالجتها الكاتبة عبر قالب الدراما المنظومة الذي يعود إلى العصور الغابرة (أثنيا الإغريق وروما القديمة، وإسبانيا العصور الوسطى)، إلا أنها تعاملت في النثر بشكل مختلف فقد قامت بإعادة إنتاج سماته النموذجية، بما يعالج القضايا الحياتية مجتمعة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدون أن يدخل نثرها في أي تعقيدات وبواقعية، وبدون رحلات إلى الماضي. فأتى أبطال أعمالها النثرية حاملين بصمات الوقت الحاضر، عاكسين الجو السياسي والثقافي والنفسي الراهن. في أعمال ليسيا أوكراينكا يتطور صراع الشخصيات ليغدو الصراع النموذجي للعصر، فيعكس نضال المواطن الأوكراني وتناقضاته.
في دائرة الأصدقاء، من الواضح أن طبيعة نثر ليسيا أوكراينكا قد عولجت غير مرة، فساد الاعتقاد أن الشاعرة تكتب القصص بسهولة. في رسالة إلى والدتها، بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1894، حول مسألة انتهائها من قصتها الطويلة "الوحيد" (قصة طويلة لم تنهها الكاتبة): "الآن على الأقل، لا أحد يؤرق دماغي! يعتقدون أنه يسهل علي كتابة قصة، فليجربوا ذلك بأنفسهم...". يدلنا ذلك على أن ليسيا كانت تعمل على النثر بالجهد نفسه كما كانت الحال في أعمالها الدرامية والغنائية. وكانت كلماتها في أعمالها النثرية كذلك بالإلهام والقوة عينهما، وكانت سلاحًا موثوقًا به في عملية الصراع نحو مستقبل أفضل.
بدأت ليسيا أوكراينكا حياتها كقاصة عبر فني القصة القصيرة والأقصوصة، ولم يكن هذان الشكلان من القصة مسيطرين أدبيا في ذلك الوقت، لكنها كانت معجبة بهما. وكتبت في إحدى رسائلها إلى إيفان فرانكو: "لا أحب القصة الطويلة أو الرواية الممتدة إلى أجزاء إلا نادرًا، ربما لأن لدي طبيعة شعرية للغاية. أنا لا أحاول إطلاقًا أن أبدي تفضيلاتي على المبادئ، وهي ليست مبادئ هنا أيضًا، فكل المسألة تكمن في النوع المختار". كما أن علاقتها من النقد، ونظرتها الشخصية تجاه أعمالها النثرية كانت متغيرة، فهي لم تسع يومًا إلى أن تكون قصصها مثالية ولم تعتبرها كاملة، لكنها في الوقت نفسه طالبت بالنظر إليها على أن هذه القصص "أطفالها الأصليين"، وليست شيئًا عابرًا أو ثانويًا. ولم تكن تلك القصص ناتجة عن تنامي نشاطها الإبداعي فحسب، بل عن التطور الداخلي والنموالروحي نتيجة انعكاسات مشاكل الحياة البشرية على شخصيتها بشكل مؤلم ومكثف.
تتميز أعمال ليسيا أوكراينكا النثرية بتكوين نماذج خاصة في التصوير والتعبير، فلم تكن موهبة في الصياغة فحسب، بل أخذت بعين الاعتبار كيفية تصور القارئ للنص. لذلك في إحدى رسائلها إلى شقيقها ميكولا بيتروفيتش كوساتش، تقول بطريقة مقنعة إن "لوحات البوتريه لها قيمة في الأدب، وذلك أمر لا تملكه الصور الفوتوغرافية.. فيدون خيال لا يوجد أدب. ففي الحقيقة سنتمكن من وصفه بشكل واقعي فقط إن وضعنا نقطة مشرقة معبرة أمام عيني القارئ". لذلك نجد أن معظم أعمالها النثرية تنتمي إلى فني القصة القصيرة والأقصوصة، أي ما يسمى بالأنواع القصيرة، والتي لطالما تميزت بدينامية خاصة، فقد سمحت للكاتبة بأن تلتقط فورًا "تغيرات حركتها النفسية"، ومشاعرها، تجاربها الشخصية وتفاعلها مع الأحداث الاجتماعية والسياسية، من جهة، والاستجابة السريعة لتلك المشاعر والتجارب والأحداث من جهة أخرى.
بطاقة
ولدت ليسيا أوكراينكا (اسمها الحقيقي لاريسا بيتروفنا كوساتش – كفيتكا)، في 13 شباط/ فبراير (25 منه) سنة 1871، في مدينة نوفهراد فولينسكي (الآن منطقة جيتومير)، وتوفيت في 19 تموز/ يوليو (1 آب/ أغسطس) سنة 1913 في قرية سورامي في جورجيا. شاعرة أوكرانية عظيمة، مترجمة، ناشطة ثقافية. ولدت ليسيا ضعيفة، كانت مريضة دائمًا تقريبًا، توفيت وهي في الثانية والأربعين من عمرها. أصبحت رمزًا لأصالة أوكرانيا واستقلالها، على قدم المساواة مع كبار الأدباء والفنانين، مثل تاراس شيفتشينكو، وهريهوري سكوروفودا، وإيفان فرانكو.
ليسيا أوكراينكا: قراءة في الأعمال النثرية 1 / 4