في الطائرة التي أقلتني من كييف إلى بيروت أواخر آذار/ مارس 2017، بحثت في حقيبة اليد عن كتاب أهدانيه ميخايلو هورلوفي إثر عرض لكتابي "1897 قصص أغاتانغل كريمسكي البيروتية" في قاعة المجلس العلمي في مكتبة فرنادسكي الوطنية. في الواقع كنت قد تفاجأت به يتحدّث عن تجربته في لبنان وما تركه من منحوتات فيه، بين العامين 1998 و2011. لم ألتق به من قبل، لكن إحدى منحوتاته في بعنوان "الحبيبان"، في بلدة ذوق مصبح، من الصعب أن تغادر الذاكرة إن احتلّتها في ليلة ربيعيّة لطيفة. إلى جانبي كان في المكتبة.. نظرت إليه وهو يقرأ إحدى قصائده، ولم أكن أعرف آنذاك أن مبدعَ الصخر نحتًا، ينحت بالكلمات حبّه للبنان وطبيعته وناسه. لم يكن بإمكاني أن أهديه أحد كتبي المعدودة التي حملتها معي من بيروت، والتي كانت برسم الحفظ في المكتبة الوطنيّة. أسفت لذلك. وقد كان من نصيبي في رحلة الطائرة التي استمرّت لثلاث ساعات غوصٌ ممتع في كلمات ديوان ميخايلو الرابع "شعرٌ في الحجر"، الذي صدر قبل ست سنوات، واحتوى على قسم باسم "لبنان" مع رسم جميل.
وما هي إلا ثلاث ساعات، إلا كنت على أرض بيروت ليلًا.. بعد الدرجة الأولى في الطائرة والفندق والضيافة الممتازة، ها أنا في وطني من جديد قد لا أملك من المال ما يكفي لتاكسي المطار أن تقلّني إلى البيت.. ضحكت في سرّي ولعنت مصير الكتّاب في وطني. ضحكت.. ولم تعد في البال إلا كلمات أدندنها شعرًا بالعربيّة، أمازج بين كلمتين منها حينًا، وأقلّب تفعيلة مكان أخرى بينها أحيانًا، وهي كلّها مستمدّة من إحدى قصائد ميخائلو، التي أسميتها "المدينة الأحبُّ" كونه لم يضع لها عنوانًا:
"بيروتُ يُزهرُ ليلُها بالنُّور وهّاجا،
سيارةٌ تلو اختها... تنساب أمواجا،
كورنيشُها ملقى الأحبَّةِ فيه أفواجا،
حيثُ الجمالُ مجسّدٌ، والسحرُ في بيروت.
***
بين المطاعمِ والمقاهِي خافِقي عَانَى،
والكأس كان مزاجها شمسًا ورُمّانا،
والبحر رشَّ رذاذُهُ ملحًا وألوانا،
عمّدْتِني من عطرِه وهواكِ يا بيروت!".
***
لكن، أليس ذلك غشًا؟ أن أشارك هورلوفي أفكاره المنظومة عن لبنان، أن أحشر بيتًا آخر لا مكان له: "يغشى الحِسانَ برقّةِ تُمسيهِ سكرانا..." كيف يمسي بحر بيروت ثملًا حين يلمس رذاذ أمواجه وجنات الصبايا المتمشّيات على كورنيشه! أجب!
ضحكتُ. أم لعلَّ كلّ ترجمة شعرية هي شراكة ما، تنتج شعرًا آخر، كما قيل، ولا مكان في ترجمة الشعر للحَرفيَّة، حيث سيكون ذلك نفسه خيانة للنص. أي أن الخيانة هنا معكوسة، تكمن في النقل الحرفي لا في التناصّ التام. حسنًا، لن أتابع... وهكذا، مرّت الأيام، وقرأت ما نظمه ميخايلو عن لبنان، ورأيت أن ليس لدي ما أهديه في المقابل سوى ترجمة حرفيَّةً إلى العربيَّة. فلتكن خيانة، وسأترك النظم إلى حين آخر.
ميخايلو اللبناني
ولد ميخايلو هورلوفي في بلدة تشيربانكوفكا الأوكرانية، سنة 1952، وأنهى "معهد كييف الوطني للفنون" سنة 1992، وخاض مسيرة وطنيّة إبداعية طيلة تسعينيّات القرن الماضي، وصولًا إلى الألفية الجديدة، التي ضمّت أعمال مرحلة الرشد في فنون نحت الصخر والحجر، والخشب والبرونز، وغيرها من الأعمال التي خوّلته أن تحفظ أعماله في عدد من المتاحف الوطنية الأوكرانية، والمتاحف والمجموعات الخاصّة العالمية في كندا والولايات المتحدة، وفنلندا، وفرنسا، وصربيا، والمغرب، وسوريا، وبريطانيا، وإسبانيا. وهو عضو "الاتحاد الوطني لفناني أوكرانيا"، و"الاتحاد الوطني لكتّاب أوكرانيا"، وكذلك عضو "الاتحاد الأدبي – رادوسين". أما رحلته اللبنانية فلها طعم خاص، حيث تشارك فيها على مراحل منذ العام 1998 ولأكثر من عشر سنوات مع رفيق له في مدرسة الإبداع هو الفنان اللبناني العالمي بيار كرم، أو على الأقل لم أتمكّن شخصيًّا من قراءة منحوتات ميخايلو من دون التعريج على ما استشفّيته من أعمال كرم التي تملأ لبنان نورًا وفلسفة محبَّة.
يقول الكاتب الأوكراني أناتولي فيسوتا الذي زار لبنان ثلاث مرّات، إن أحبّ أعمال ميخايلو هورلوفي إليه هي بعنوان "الربيع"، وتحتل مكانًا جميلًا في القسم الأعلى من بلدة عاليه، التي يسميها فيسوتا "مركز جنّتنا". وأعتقد أنّ فيسوتا لم ير منحوتة أكثر إبهارًا لميخايلو وهي "حوريّة البحر" في عمشيت.. أعتقد أنّه كان ليقف أمامها ساعات. وقد ترك ميخايلو نحو 15 منحوتة صخرية في لبنان، وأذكر منها، "أغنية أوكرانية" في بلدة راشانا الجبليّة سنة 1998، "الأمازونية" في بلدة عاليه سنة 2000، "الربيع الغضّ" في بلدة رأس المتن سنة 2001، "الربيع" في عاليه سنة 2001 كذلك، "الأمومة" في بلدة ذوق مكايل سنة 2002، "الشواطي" في مدينة جبيل سنة 2003، "السيدة" في ذوق مصبح سنة 2004، "العرائس" في بلدة ذوق مكايل سنة 2005، "العاشقان" في ذوق مصبح سنة 2006، "العطاء" في عاليه سنة 2009، "وإلهة الفكر" في عمشيت سنة 2010، وصولًا إلى "حورية البحر" المنوّه بها في عمشيت سنة 2001.
أما نحتُ الكلمة شعرًا، فلا تقل مسيرته إبداعًا لدى هذا الفنان، فديوان "شعرٌ في الحجر" الصادر سنة 2011، هو الرابع في مسيرته الشعريّة، التي بدأت مع "أنا دير في مهاوي تريبوليس" سنة 1996، وتابعت مع "أولاد الإله جاد" سنة 2000، ثم مع "الطريق إلى أوكرانيا" سنة 2006.
ومن أشعاره التي اخترتها للترجمة قسم "لبنان" في ديوانه "شعر في الحجر"، جاء فيه:
مساءُ بيروتَ يُزهر بالأضواء،
حيث تنتشر المطاعم والمقاهي.
تنساب السيّارات كالأمواج في المدينة،
وتتهادى السيدات والفتيات على الكورنيش.
اليوم، نحن كذلك في مطعم "فيندوم"،
نحتسي أقداح شراب مشمس،
وآخر ممزوج بعصير الرمّان.
وهناك، عبر النافذة، ينظر إلينا المتوسّط،
ويرش رذاذ أمواجه على العابرين.
***
يوم برتقاليُّ في البقاع،
تغشاهُ سحبٌ خفيضة لطيفة،
يصرخ الربّ من الجبال بقوس قزح،
ويضرب البحر من البعيد طبوله الصاخبة.
تحلم النجوم في ليل السهل،
والسماء الزرقاء هي ملكوت البعل،
ذاك العمود النحيف الرشيق،
الذي ينتصب في المعبد كربّة الحسن.
***
جبيل، المدينة التي انتظرتني ردحًا من الزمن،
حين تلوّن أشعّة الشمس الرذاذ على الوجنات،
وتتناثر على شاطئها الصخري بصخب
عند الشلّال الأزرق المائل إلى الخضرة،
المنحدر على الجرف بلطف،
أقف بين قمم جبال من العنبر، ثملًا بعبق التين،
والصخور المعلّقة فوقي، كسحب بيضاء مقيمة،
وأعلى الجبل الأخضر، تشيب القمم بصمت.
***
الريح تعصف حاضنة الغبار،
تزفر كلسان لهب من هالة الشمس،
تشعر هنا بلسعة التنفّس الثقيل،
بين قعرين متورّمين - بحر وسماء.
***
الشمس تشعُّ بشراسة، على قمم لبنان –
وحدهُ الأرز يقفُ هنا في مملكته الخضراء،
يزهرُ وسط الجبال الشاهقة... بعمق.
---
* نشرت هذه المادة في صحيفة "الحوار المتمدن" الالكترونية، العدد 5555، بتاريخ 18 حزيران/ يونيو 2017.