ذخائرنا العربية على ضفاف الدنيبر


كانت تاتيانا إيفانوفنا أرسينينكو تنتظرني في بهو "متحف تاريخ الأدب الأوكراني"، بوشوشة الوجه لطيفة الهيئة تعمل في معهد المخطوطات في مكتبة فيرنادسكي الحكومية الأوكرانيّة. أخذت السيّدة السبعينيّة بيدي وسرنا في جولة تاريخيّة غنيّة، ومع كل خطوة كانت تحدّثني عن البيوت الأنيقة على جانبي الطريق وعن قاطنيها قبل الثورة البلشفيّة، وكيف تحوّل معظمها إلى متاحف ومبان ذات استخدام عام. تركنا شارع بوهدان خميلينسكي وانعطفنا نحو ترشينسكا حيث عاش أغنياء كييف وتجارها في فيلات تحولت إحداها إلى متحف تاراس شيفتشينكو، على زاوية الجادة التي تحمل اسمه، ثم قطعنا الحديقة الواسعة التي يزيّنها تمثاله الضخم في مقابل مبنى جامعة كييف الحكومية الرئيس، وإلى جانب الصرح الأحمر على شارع فولوديميرسكا ينتصب المبنى القديم لمكتبة فيرنادسكي، الذي تحوّل إلى قسم المخطوطات بعدما انتقلت المكتبة إلى مبناها الحديث في الطرف الآخر من المدينة.

في قاعة البحث

في المكتبة، قادتني رئيسة قسم المخطوطات التراثية في المعهد أولغا بتروفنا ستبتشينكو في جولة، واضعة بين يدي عددًا من النسخ الأصلية التي كتبها المستشرق أغاتانغل كريمسكي (1871-1942) بخطّه في بيروت سنة 1897، وعرّفتني على بعض المخطوطات العربيّة التي تحتضنها جدران المعهد، وتراكمت لنحو قرن من الزمن. 
هنا يمكننا الاطلاع على نسخ مختلفة من القرآن الكريم خطّها عدد من النسّاخ، وطائفة من كتب الصلوات المسيحيّة والأوقاف الكنسية وسير القديسين والتراجم ونسخ من الأسفار المقدسة، ومن بين المخطوطات العربية كتب التفاسير، ومنها "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" لعبد الله بن عمر البيضوي، وفي الإسلاميات "تفسير كتاب المصباح" لمؤلف مجهول يعود إلى سنة 850 هـ. و"أحاديث مجموعة" لتاج الدين طاهر بن محمود أنهاه في شعبان 1055 هـ.، و"الأحاديث الموضوعة" للعسلي القارئ الهروي بتاريخ 1209 هـ.، و"شرح المصباح" لمحمد بن محمد القراباغي عز الدين في العام 9012 هـ.، و"غنية المتملّي" لمحمد بن محمد الحلبي، وهو تعليقة على "غنية المبتدي" لسديد الدين الكشغري (ت. 956 هـ.). ومن مخطوطات أصول الفقه "كنز الوصول" نسخ في 676 هـ.، وهو لابي الحسن علي بن محمد البزودي المتوفي في سمرقند سنة 482 هـ. ذلك إلى جانب العلوم الإسلامية الأخرى، ومنها "المنظومة النسفيّة في الأخلاقيات" لنجم الدين أبي حفص عمر بن محمد بن أحمد لقمان النسفي (ت. 537 هـ.)، وجملة أبياتها 2660، وسنة نسخها 863 هـ. وفي الشروح "درر الحكام في شرح غرر الأحكام" لمحمد بن فراوز بن علي ملا خسرو المتوفي في البصرة سنة 885 هـ. 

العربيّة على ضفاف الدنيبر

حظيت علوم اللغة العربية بعناية من جامعي المخطوطات التي آلت على المكتبة، ومن بينها كتاب "المفصّل" لمحمود بن عمر أبي القاسم الزمخشري (ت. 538 هـ.)، والنسخة بخط محمد الكافي في "محروسة ناختشيفان" سنة 732 هـ.، وكتاب "المصباح في النحو" لأبي الفتح ناصر بن عبد السيّد المطرزي (ت. 610 هـ.)، و"ضوء المصباح" لتاج الدين محمد الفاضل الإسفرائيني، وقّع سنة 684 هـ.، و"الكافية في النحو" لعثمان بن عمر ابن الحاجب (ت. 646 هـ.) ورسالة "العوامل المائة" في النحو لعبد القاهر الجرجاني (ت. 471 هـ.)، وكتاب "مفتاح العلوم" لسراج الدين أبي يعقوب السكاكي (ت. 627 هـ.)، وعدد من المخطوطات الملخصة له أو الشارحة لمؤلفين آخرين، وكذلك مخطوط "الرسالة الولدية في فن المناظرة" لمحمد سالجقي زاده المرعشي (ت. 1150 هـ.)، ومخطوط جميل بخط النسخ لديوان أبي العلاء المعري "سقط الزند" وآخر أنيق يعود إلى سنة 1029 هـ. بعنوان "تعبير نامه" المشهور بتفسير الأحلام لمحمد ابن سيرين. وفي التراجم "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لأبي الخير بن مصلح الدين مصطفى (ت. 968) نسخ سنة 989 هـ... وكل ذلك غيض من فيض، فالوقوف على ما في المكتبة من كنوز يحتاج إلى أيام من البحث.  

كان يمكن أن تختفي

لعل الحقبة الأكثر خطورة في تاريخ المخطوطات والمكتبة عمومًا، هي فترة الغزو النازي لمدينة كييف سنة 1941، فعلى عتبة اجتياح المدينة لم يسعف الوقت السلطات السوفياتية أن تنقل جميع محفوظات المكتبة إلى العاصمة البشكيريّة أوفا، حيث لا تطالها أيادي الغزاة. وبقي قسم كبير منها في كييف تحت الاحتلال، وفي العام 1943، ومع تلقي النازيين ضربات موجعة وتقهقرهم أمام الجيش الأحمر، قرروا حمل محفوظات المكتبة معهم أثناء انسحابهم عبر الأراضي البولونية إلى ألمانيا. ووفق المؤرخ يفغيني غوروخوفسكي، يحفظ التاريخ فضل أحد العلماء العاملين في المكتبة تحت الاحتلال وهو سوفياتي ذو أصول ألمانية اسمه غريبنير، ففي مكان ما على الأراضي البولونية، أوقف غريبنر قطار الشحن الذي حمل محتويات المكتبة، مخاطرًا بحياته في انتظار طلائع الجيش الأحمر، محافظًا بذلك على المكتبة. 

تاريخ المكتبة

بالتزامن مع إنشاء "أكاديمية العلوم الأوكرانية" في كييف سنة 1919، أنشئت "المكتبة الشعبية الأوكرانية"، وإليها في العام 1923، نقلت ذخائر مكتبة "أكاديمية كييف الروحية" وبين تلك الذخائر مئات المخطوطات التي ضمّت المجموعة العربية. وهي عبارة عن هبة كانت قد تلقتها الأكاديمية من رئيس البعثة الروسية الروحية في القدس الأرشمندريت أنطونين (أندريه إيفانونفيتش كابوستين)، الذي كان باحثًا مؤرخًا وعالمًا في طبقات الأرض. وكان أنطونين يرسل المخطوطات تباعًا، إلا أنّ نواة مجموعته تألفت من خمس مخطوطات عربية مسيحيّة سطّر بخطّه في عليها "هذه المخطوطات أهديها إلى مكتبة أكاديمية كييف الروحية، في 25 أيار/ مايو 1868". وكان ذلك لمناسبة اليوبيل الفضي لإنشاء الأكاديمية الروحية، ثم بات يرسل دفعات منها، وما لبثت المكتبة أن استقبلت مجموعات أخرى من الهبات طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي من مجموعات مثقفين وجامعي مخطوطات من القرن الثامن عشر إبان تمدّد الإمبراطورية البولونية على أراضي روسيا القيصرية، فآلت ملكيتها بشكل أو بآخر إلى الأكاديمية، ومنهم أ. فيتسكوفيتش، وي. سلافاتسكي، وف. بولي، وي. يابلونوفسكي، وهذا الأخير كانت ابنته الأميرة تيوفيلا سابيها قد تبرعت بمجموعته كاملة بعد موته في العام 1777 للإدارة الروحية فوجدت سبيلها إلى المكتبة بعد نحو قرن. 
فيرنادسكي وكريمسكي
مع إنشاء "المكتبة الشعبية الأوكرانية" (التي ستتحول إلى "مكتبة فيرنادسكي الحكومية الأوكرانية")، وانتقال المخطوطات إليها باتت في عهدة "أكاديمية العلوم"، التي ضمت قسمًا للدراسات العربية والفارسية، بإشراف الأكاديمي المستشرق كريمسكي الذي لبى دعوة الأكاديمي الموسوعي فلاديمير فيرنادسكي (1863-1945) لتولي مهمّة سكرتير الأكاديمية، وعن وصوله إلى كييف يقول فيرنادسكي: "حسنًا فعل (كريمسكي) أنّه قبل بالمجيء إلى كييف، لكنه لم يكن ليفعل ذلك إلا بعد نقل مكتبته الضخمة التي تزخر بالأسفار العربية والفارسية والتركية". وكان قد تبرع للمكتبة بعدد كبير من المخطوطات التي حملها بنفسه من رحلته البيروتية (1896-1898)، والتي شكّلت مصادر ومراجع مؤلفه الموسوعي "تاريخ الأدب العربي المعاصر". كما أضاف إليها المخطوطات التي حصلت عليها بعثة الأكاديمي ف. أوسبينسكي في طرابزون صيف العام 1917، التي شارك فيها كريمسكي، ويقول عن ذلك: "هي بضع مئات من المخطوطات المهمّة، ولغتها عربيّة وليست تركيّة، على الرغم من الحصول عليها من الأراضي التركية".

---

من بيروت وعنها - أوراق أوراسية في التفاعل الحضاري (بيروت: دار المصور العربي، 2018)