قرن على لجوء الأوكرانيين إلى مصر


ربيع عام 1920، فرّ نحو أربعة آلاف وخمسمئة لاجئ من الأمبراطورية الروسية إلى مصر، كان ثلاثة أرباعهم من القومية الأوكرانية، من البلاد التي كان قياصرة الروس يدعونها آنذاك بـ "روسيا الصغرى". عاش هؤلاء اللاجئون في معسكر تل الكبير في محافظة الإسماعيلية. وكان نحو ثلث اللاجئين العسكريين مع زوجاتهم وأطفالهم. مطلع عام 1921، نقلت السلطات اللاجئين إلى معسكر سيدي بشر لأسرى الحرب. يقع هذا المعسكر على شاطئ البحر الأبيض المتوسط قرب مدينة الإسكندرية. تتحدث بعض الوثائق الأصلية عن الحياة في هذين المخيمين، والمصدر الرئيس هو مذكرات الضابط في الحرس القيصري الأبيض ثم في جيش الجمهورية الأوكرانية الشعبية هريتس بوجوك (1890-1993) التي نشرت للمرة الأولى بين كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس 1941، على صفحات مجلة "الأخبار المصورة" التي كانت تصدر في مدينة كاراكوف، التي تقع اليوم ضمن حدود بولندا. في عام 1946، نشر الكاتب مذكراته في كتيب في مدينة ريغينسبورغ البافارية حيث كان يعيش. تضمن الكتيب النص فقط من دون أي صور أو رسوم. وقد استخدم هذا النص في كتاب "نضال إقليم سومي" الصادر في كييف سنة 2007، لكون معظم لاجئي المذكرات ينتمون إلى هذا الإقليم الأوكراني. هنا نورد مقتطفات تروي عن حياة هؤلاء اللاجئين مستعينين بكتاب بوجوك وبعض صوره التي نشرتها دورية "الحقيقة التاريخية"، نقلا عن صفحات مجلة "الأخبار المصورة". 

الوصول

"... أخيرًا، أطلت علينا الاسكندرية في الأفق. خرج إلى سطح السفينة كل من استطاع الخروج، وتصايح الناس مبتهجين بأصوات عالية، وأنظارهم مشدودة إلى أرض الفراعنة القدماء. آنذاك لم يعرف أحد منا إلى أين سيقودوننا. كنا قد خلفنا وراءنا شتاءً قاسيًا في شبه جزيرة القرم، وكان من الرائع أن تستقبلنا أشجار النخيل الخضراء الجريد وأن نتنفس الهواء الدافئ. من على متن السفينة شاهدنا مجموعات من الأطفال السُّمر السريعي الحركة وهم يتقافزون إلى قوارب صغيرة كي يحملوا إلى سفينتنا جميع أنواع الخضروات والفواكه. أنزلنا إليهم قطع نقود معدنية مربوطة بأطراف حبال رفيعة، ثم سحبناها محمّلة بالموز والبرتقال والليمون والرمان...

الإسكندرية (أو بلهجة السكان المحليين "سْكندريّه") تترك انطباعًا جيدًا جدًا في ذهن مشاهدها، هي مدينة أوروبية حقيقية تقع على ساحل البحر، تزنر بيوتها اشجار النخيل وبالصنوبر والسرو، وكذلك بأزهار الدفلى والنباتات العطرية. القسم الأوروبي من المدينة نظيف ولائق، هنا يمكنك الالتقاء بممثلي شعوب العالم كله، لكون الاسكندرية تمثل مركز تسوق مهم.

لكن القسم الذي يعيش فيه العرب مهمَلٌ وقذر للغاية: شوارعه عبارة عن أزقة ضيقة على جانبيها تكتظ منازل صغيرة تشبه الأعشاش، تعيش فيها عائلات من سكان البلاد الأصليين مع الفئران والعقارب ومليارات حشرات البق. الأولاد هناك ذوو ملابس بالية متسخة، عيونهم متورمة، يلهون وسط الذباب الذي لا يمكن إبعاده عنهم.



في أسواق المدينة يمكنك العثور على أفضل المنتجات، لكن فيها ما يدفع الأوروبي إلى الهروب، هناك تصدح أصوات الموسيقى الشرقية، وهي رهيبة لا يمكن للأعصاب احتمالها، وعلى أنغامها ترقص فتيات عربيات رقصا شرقيا. على الرغم من  الجو الإكزوتيكي الغرائبي، إلا أن الأوروبي يخاف من روائح السوق وأصواته، فيفر نحو القسم الساحلي من المدينة، حيث يمكنه أن يستقل الترام الكهربائي ذا الطبقتين، وأن يتنزه على الكورنيش الطويل وسط متنزهين أنيقين...".

 

القاهرة

"غادرنا السفينة مسرورين. سعدنا بوجود أرض صلبة تحت أقدامنا، إلا أننا سرعان ما انتقلنا إلى القطار، فأحسسنا ولفترة طويلة وكأن أرضية العربات تتأرجح وترمي بنا من زاوية إلى أخرى. ولّدت المشاهد من حولنا انطباعات قوية لدينا حول لقائنا بالشرق، والكثير من التكهنات حول القاهرة... قبل بضعة كيلومترات من القاهرة استقبلتنا الأهرامات في الأفق، وكانت تقترب منا ويكبر حجمها مع كل دورة من عجلات القطار. كنا مهتمين بكل محطة، بكل مشهد يطل علينا من نافذة القطار، كان كل شيء غريبًا مبهمًا لا يمكننا مقارنته بما نعرفه من أشياء. ها قد وصلنا. المحطة الجميلة زادت الشرق غموضًا في أعيننا، الملابس الغربية تختلط فيها مع الشرقية، أما اللغة العربية التي يمكن حتى للأوروبيين أن يتحدثوا بها فلا نفقه منها شيئًا.  كانت كتلة بشرية كبيرة على رصيف المحطة تنظر إلينا باهتمام شديد وتتفحص أزياءنا الرسمية. سرنا في طابور، واحدنا تلو الآخر، حولنا انتشرت عربات شحن صغيرة، تجمعنا في صناديقها الخلفية، أقلتنا في رحلة طويلة إلى مخيم كان مخصصًا للأسرى الأتراك. المخيم عبارة عن معسكر ضخم محاط من جميع جهاته بأربعة صفوف من الأسلاك الشائكة، وأمامه كان حراس سود اللون يتجولون شاهرين بنادقهم... اختفى المزاج الجيد على الفور، وبات كل شيء من حولنا سيئًا وعدائيًا... حاولنا التحدث إلى الجنود الهنود لكن من دون جدوى، لم تساعدنا الكلمات البخيلة بلغات مختلفة في إيصال مرادنا. لم يساعدنا شيء. ما الأمر؟ هل نحن أسرى؟ في أي معركة أسرونا؟ أي عنف هذا! انتخبنا مندوبين عنا لتلمس الأوضاع ولشرح واقعنا، فنحن لسنا سجناء بل ضيوف الملك الإنكليزي. لكن بلا فائدة! كان من الضروري التأقلم مع الواقع والتحرك: الضباط وعائلاتهم إلى الثكنات والجنود إلى الخيام. أطعمونا بشكل جيد. كان الجنود الأتراك الأسرى يخدموننا. سرعان ما تعرفنا إلى واقعنا عن قرب. استلقينا على الرمال ولوحت بشراتنا أشعة الشمس. كانت الحياة في المخيم رتيبة، مليئة بالأفكار والتكهنات والأحلام عن عالم بعيد تركناه. أغدقت الشمس المصرية الحارة علينا أشعتها بسخاء، ومرت الأيام تلو الأيام...".

 


معسكر التل الكبير

"التل الكبير قرية صغيرة تقع على ضفة إحدى أقنية النيل، وعلى الضفة الأخرى يقع معسكر الاعتقال – مكان إقامتنا الجديد. في القرية محطة للسكك الحديدية، يمر فيها قطار، يسير في موازاة القناة بين بور سعيد والقاهرة. حول المخيم أرض صحراوية، وفي الأفق تلوح غابة نخيل وبعض النخلات المنفردات عنها، تحت سماء صافية. أمامنا في القرية تزدحم المنازل العربية وصولا إلى القناة، ثم تمتد الحقول والبساتين. كل ذلك ترك لدينا انطباعا جيدًا... تركنا الحراس، ما عادوا يدورون حول المعسكر.. كانت إدارة المعسكر في أيدي البريطانيين، لكنهم لم يتدخلوا في الأمور الداخلية.. انقسمنا إلى فئتين في معسكرين منفصلين، المتأهلون مع زوجاتهم وأولادهم في الأول وغير المتزوجين في الثاني. ازدادت أعداد الخيام، كانت كل واحد تحتوي على ثلاثة أسرّة، وعدد إضافي من الفرشات، وناموسيات لصد هجمات البعوض، وطاولة، وما إلى ذلك. لم يحصل الجنود الأدنى رتبة على أسرة، كان عليه أن يفترشوا الأرض... الوجبات الدسمة في المناخ الحار كانت تحدث مشاكل معوية لدينا، ولمحاربة الأمراض امتنعنا عن الاستلقاء بلا مبالاة فوق الرمال، وبدأنا بالمشي أكثر في الصحراء بعيدا عن المخيم، ثم نظمنا أنفسنا في مجموعات رياضية مختلفة للركض والهرولة. وكان من أساليب الترفيه لدينا مباريات الطائرات الورقية المفترسة، وكنا نقودها عبر الخيطان بمهارة لنوقع طائرة الخصم... وبمجرد أن يدق الجرس لتناول الغداء يظهر "الضيوف" [يقصد الحيوانات البرية] ويتسللون إلى سكان الصحراء الجدد ليناولوا قطعة لحم... كل ليلة تسلينا بنات آوى بحفلاتها الموسيقية قرب السياج.. أما العقارب والفئران فكانت تستمد الدفء من أجسامنا بعد خلودنا إلى النوم...".

 


الانقسام والتشرذم

كانت أحلام العودة إلى روسيا للقتال في وجه الجيش الأحمر لا تزال تدغدغ الحرس الأبيض في المعسكر. وأرادوا أن يعيدوا تنظيم صفوفهم العسكرية، فشرعوا في التدريبات القتالية اليومية، وأنشأوا لجنة طرحت على اللاجئين سؤالا واحدًا: "هل ترغب في العودة إلى روسيا؟"، وجاء جواب معظمهم مبهمًا على غرار "عندما تتعافى روسيا سنعود".

تقدم الضابط بوجوك مع آخرين بطلب تسريحهم من الجيش، فأدى ذلك إلى إنشاء لجنة أخرى أعادت طرح السؤال عينه، فأجاب الأوكرانيون: "لا!". نتج عن ذلك انقسام حاد في المعسكر فحمل الروس البيض اسم "الوطنيون"، أما الذين رفضوا العودة إلى روسيا فسموهم بـ"الخضر". ولما كان "الوطنيون" يتحكمون بالمعسكر، على الرغم من كونهم أقلية إلا أنهم قسموا المعسكر إلى نصفين وعزلوا "الخضر" بعيدًا عن الأبواب. وكان "الخضر" يضطرون إلى السير جماعات (بين عشرة وعشرين شخصًا) خوفًا من المشاكل. ورفعوا رسالة تضمنت طلب حماية مباشرة إلى قائد الحامية البريطانية الرئيسة في مصر الجنرال والتر نوريس كونغريف، حملت تواقيع الضباط الستين الأعلى رتبة بين الأوكرانيين. في انتظار رد البريطانيين غدت الحياة صعبة في المعسكر، وحاول العديد من الأوكرانيين الخروج منه، إلا أن تصاريح المغادرة المؤقتة كانت بأيدي "الوطنيين" يمنحونها وقت شاؤوا.

وقد نال بوجوك وصديقه فيدر إلتشينكو تصريحًا سمح لهما بزيارة القاهرة ليوم واحد. زارا القنصلية الفرنسية وملآ استمارات الالتحاق بالفيلق الأجنبي الفرنسي، فحصلا على جوازي سفر فرنسيين وتأشيرة سفر إلى بيروت. إلا أنهما لم يغادرا مصر، بقي إلتشينكو في القاهرة، وعاد بوجكوف إلى المعسكر (متسلحًا بجواز سفره الفرنسي)، ليجد أن العديد من الأسر الأوكرانية القوازاقية قد فرت على وجهها، وتفرقت في دلتا النيل بدون تصاريح أو نقود... لكن الأمر لم يطل بمن بقي في المعسكر منهم، فقد استجاب الجنرال كونغريف للنداء، حيث زار المعسكر وسرعان ما نظم عمليات ترحيل "الوطنيين" المتحمسين للعودة إلى ميادين القتال في وجه البلاشفة في القرم، حيث قضى معظمهم نحبه.

 


معسكر سيدي بشر

"... بعد شهرين (بداية عام 1921) نقلونا إلى معسكر سيدي بشر الواقع قرب شاطئ البحر على بعد نحو أربعة كيلومترات من الإسكندرية، وكان قبلذاك، في الحرب العالمية، معسكر اعتقال للجنود الأتراك. في معسكر سيدي بشر كان معظم اللاجئين من "الخضر"، تحت قيادة عقيد أوكراني. وقد انتظمت الحياة الثقافية والفنية، ونظمت الحفلات والمحاضرات والاحتفالات بالأعياد الوطنية. تحضيرًا لإحياء ذكرى ميلاد تاراس شيفتشينكو [الشاعر الأوكراني الأكبر، 9 آذار/ مارس]، فككنا أقسامًا من الغرف فأنشأنا رواقًا طوله ثلاثون مترًا، يستوعب مئتي شخص وبنينا مسرحًا. وقام المنظمون برسم زخارف من التراث بالإضافة إلى تعليق صورة كبيرة لشيفتشينكو. وقد ازدحم اللاجئون لمشاهدة الحفل وكان البرنامج متنوعًا. سرعان ما ظهرت المجلات والكتب العلمية في المعسكر، وكانت المكتبة تنمو بشكل شبه يومي، ثم أسسنا غرفة للقراءة، وغرفة لعرض الأشغال اليدوية من نماذج مصغرة للبيت الأوكراني ومطرزات الفتيات والنساء. كنا ننظر إلى ذلك الركن ونؤمن بعودة سعيدة إلى وطننا... كنا بدأنا بنشر مجلة مطبوعة على الآلة الكاتبة مزودة برسوم كاريكاتورية ونقوش ملونة [مجلة "على الأطلال"، نشر العدد الأول منها قبل أسبوعين من ترحيل اللاجئين من معسكر التل الكبير إلى سيدي بشر حيث استمرت في الصدور، وفق الباحث في التاريخ يوري يوزيتش]. ضم فريق المجلة محررا ومدققا لغويا وناشرًا، ورفدها الشعراء والفنانون والموسيقيون والمغنون والمثلون بالنصوص واللوحات.



... أخيرًا، جاء وقت إخلاء مخيم سيدي بشر من اللاجئين ووضعهم بتصرف عصبة الأمم. كان القلق كبيرًا. طلب من اللاجئين الذين أرادوا البقاء والإقامة في مصر أن يوقعوا على تعهد بعدم اللجوء إلى الحكومة للحصول على أي مساعدة! [وفق دورية "الحقيقة التاريخية: استمر كثيرون من الأوكرانيون في العيش في مصر، ومعظمهم من أسر ضباط جيش الجمهورية الشعبية الأوكرانية، وذلك في مخيمات وفرتها لهم الحكومة حتى عام 1933، قبل أن ينتهي بهم المطاف في رومانيا]. أما من رغبوا في المغادرة فحملتهم السفن إلى بلغاريا. وبقي عدد قليل من الأوكرانيين الذين عملوا موظفين في المؤسسات الإنكليزية في وظائف مختلفة، وكانت عائلاتهم قد التحقت بهم مستفيدة من برامج جمع الشمل، فبنوا المنازل في مصر وعاشوا بشكل جيد.

المصدر: قرن على لجوء الأوكرانيين إلى مصر، السفير العربي، 20 آب 2020.