فاسيل ستوس: أن تواجه القهر وحيدًا



لم يغب الشاعر فاسيل ستوس المتمرد على النظام السوفياتي عن أذهان المثقفين الأوكرانيين يومًا. بعد الاستقلال، دخلت قصائده في المناهج التعليمية المدرسية، ورددت سيرته في مناسبات عديدة في الإعلام، حتى أن كثيرين من الناس يحفظون أبياتًا من قصائده يذكرونها عند مواجهة صعاب الحياة المختلفة. لكنه لم يخرج من حدود أوكرانيا. كان ذلك مفهومًا في الحقبة السوفياتية لكونه جاهر بعدائه للنظام، إلا أن ثلاثة عقود مرّت قبل أن تخرج سيرته على الشاشة الكبيرة في فيلم للمخرج رومان بروفكو، كان اسمه في البداية "طائر الروح"، قبل أن يعرض باسم "المحظور". لم يحظ الفيلم بانتشار كبير، ووجهت إليه انتقادات عدة، لكنه يجسد المنعطفات الرئيسة في حياة الشاعر ونشاطه الأدبي، وحبّه ومعاناته، وموته في المعتقل.  


من هو ستوس؟ 

كانت نشأة فاسيل ستوس "سوفياتية عادية"، فقد ولد في عائلة فلاحين، وكان رابع أطفال سيميون ديميانوفيتش وإرينا ياكوفليفنا. بعد سنة على ولادته انتقلت العائلة من مسقط رأسه فولين إلى مدينة ستالينو (دونيتسك الآن) حيث عمل والداه في أحد المصانع الكيميائية. أنهى فاسيل دراسته الثانوية سنة 1954 في دونيتسك وتخرج بميدالية فضية. التحق بكلية التاريخ والأدب في المعهد التربوي. كان يعمل خلال سنوات الجامعة في مكتبتها والتحق بجمعية "الأفق" الأدبية. أنهى دراسته الجامعية حائزًا على مرتبة الشرف وعمل مدرسا للغة الأوكرانية وآدابها في منطقة كيروفوهراد لمدة ثلاثة أشهر قبل أن يستدعى للالتحاق بالجيش حيث خدم في جبال الأورال لمدة عامين. كان قد بدأ بنظم الشعر خلال دراسته وخدمته وأحب أعمال الشاعرين الألمانيين غوته وريلكه، فترجم نحو مئة قصيدة لهما، ونشر قصائده الأولى في مجلة "أوكرانيا الأدبية" سنة 1959. عمل ستوس سنة 1963 محررًا أدبيًا في جريدة "الدونباس الاشتراكي"، وساهم بين 1963 و1965 في نشر 509 أعداد من هذه الجريدة باللغة الأوكرانية التي كانت تطبع منها عشرات آلاف النسخ. بعد ذلك قرر الانتقال إلى كييف للالتحاق بمعهد الآداب في أكاديمية تاراس شيفتشينكو للعلوم، وذلك لينهي دراساته العليا والتخصص في "نظرية الأدب". في تلك الفترة أنهى ديوانه الشعري الأول "الدوامة"، وسلمه إلى دار النشر وكتب عددا من المقالات الأدبية النقدية، ونشر ترجمات قصائد لوركا وريلكه وغوته وغيرهم من الشعراء، وانضم إلى نادي الشباب في المدينة.


الاحتجاج العلني

شكل وصول الشاعر إلى كييف منعطفا في حياة ستوس، ففي أيلول/ سبتمبر 1965، وخلال العرض الأول لفيلم سيرغي باراجانوف "ظلال الأسلاف المنسيين" في دار "أوكرايينا" للسينما، شارك في عمل احتجاجي، حيث دعا ستوس قادة الحزب وسكان العاصمة لإدانة اعتقالات المثقفين، وتحول ذلك إلى أول احتجاج سياسي علني عام ضد القمع السياسي في الاتحاد السوفياتي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبسبب مشاركته في الاحتجاج حرم من مقعده الجامعي وطرد من متابعة الدراسات العليا. تنقل بين أعمال مختلفة بين 1965 و1972، وعلى الرغم من أنه كانت تحت مراقبة الت "كي.جي.بي." إلا أنها كانت أكثر سنوات حياته سعادة فقد وجد حبيبته. تزوج سنة 1965 من فالنتينا فاسيليفنا بوبليوخ، ورزقا في العام التالي ببكرهما "آلان". 

رفضت دور النشر ديوان ستوس الأول "الدوامة" سنة 1965، على الرغم من القراءات والمراجعات الأدبية الإيجابية حوله، كما رُفض ديوانه الثاني "أشجار الشتاء"، فنشره سنة 1970 ضمن سلسلة أعمال الشعراء في بروكسل. كان ستوس قد انتقد في رسائله إلى "اتحاد الكتاب الأوكرانيين" اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والبرلمان الأوكراني، مشيرًا إلى مخاطر "الذوبان في الشمولية"، و"استعادة عبادة الشخص" و"انتهاك حقوق الإنسان"، واحتج على اعتقال زملائه المثقفين. في أوائل السبعينيات، انضم ستوس إلى مجموعة مناصرة حقوق الإنسان. 


محاكمتان

أدت أنشطة الشاعر الأدبية، وانتقاده النظام والسلطات الحزبية العليا واحتجاجاته ضد انتهاكات حقوق الإنسان إلى اعتقاله في كانون الثاني/ يناير 1972 لنحو تسعة أشهر قضاها الشاعر في مركز احتجاز بلا محاكمة. في تلك الفترة نظم مجموعته الشعرية "وقت الإبداع". وبأمر من الـ "كي.جي.بي." روجعت أعمال ستوس من قبل باحث كبير في "معهد شيفتشينكو للأدب" أرسين كاسبروك، الذي وصف ديوان "أشجار الشتاء" بأنه شعر "الانحطاط والتدهور الأيديولوجي"، حيث "تصوّر الحياة السوفياتية على أنها عملية استجواب، حيث يعيش المعلم غير المتمتع بالأخلاق، وخائن المسيح، والسكير، والغوغائي. تصوّر الأشياء بغيضة. هذا عمل مكتوب بكراهية لا يمكن أن تنتج مع حالم عبقري بل عن متحيز ضد واقعنا". إلى جانب ذلك ، أشار أ. كاسبروك إلى أنه "لا حاجة لإثبات أن ديوان ستوس ضار بكل توجهاته الأيديولوجية، بل بكل كيانه. فالشخص العادي غير المتحيز لا يقرأه إلا ويزدري الشاعر، لأنه يحقّر أرضه وشعبه". وعن ديوان "المقبرة المبهجة" كتب المراجع: الشعب السوفياتي، وفق ستوس، عبار عن أناس آليين بلا روح، أناس بلا رؤوس، تماثيل لعرض الأزياء، يتصرفون آليا بأداء لا معنى له بأمر من المخطط. من الناحية الفنية، قصائد ستوس نوع من الهراء الخبيث، ولكن من الجانب السياسي العام هي تشهير متعمّد وتقبيح لواقعنا". وعلى هذا المنوال قام المراجع بتقييم أعمال ستوس كلها. وفي أوائل أيلول/ سبتمبر 1972 حكمت محكمة كييف الإقليمية على الشاعر بالسجن خمس سنوات ثلاث منها في المنفى، بتهمة "التحريض والدعاية ضد الاتحاد السوفياتي". وفي تعليقه على الحكم قال ستوس: "إثم تنفيذ القمع الجماعي يقع على عاتق عملاء الـ كي.جي.بي. فهم قتلة، لكن الإثم نفسه على عاتق المحققين والقضاة". قضى الشاعر عقوبته في معسكر اعتقال في موردوفيا السوفياتية، وهناك صودرت قصائده التي كتبها في الاعتقال ولم يفرج سوى عن عدد قليل من الرسائل التي أرسلها إلى زوجته. أقتيد ستوس من المعسكر إلى أحد مناجم الذهب للعمل بالسخرة، ومن هناك أرسل تصريحا إلى مجلس السوفيات الأعلى في الاتحاد السوفياتي، أعرب فيه عن رغبته بالتخلي عن الجنسية السوفياتية، جاء فيه: "أن أحمل الجنسية السوفياتية أمر مستحيل بالنسبة إلي، فأن أكون مواطنا سوفياتيا يعني أن أكون عبدا".

انضم الشاعر إلى "نادي القلم" سنة 1978، وعاد إلى كييف خريف 1979، وانضم إلى مجموعة هلسنكي للدفاع عن حقوق الإنسان. لم تكن صحته على ما يرام وكان يكسب لقمة عيشه من العمل في عدد من المصانع والورش الصناعية. إلا أن ذلك لم يدم طويلا فقد ألقي القبض عليه في أيار/ مايو 1980، فاعتقل لكونه "خطيرا بشكل خاص"، وفي أيلول/ سبتمبر حُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات في الأشغال الشاقة وخمس سنوات في المنفى. 



موت شاعر

أرسل فاسيل ستوس إلى معسكر اعتقال في كوتشينو (الآن منطقة تشوسوفسكي في إقليم بيرم، روسيا الاتحادية) حيث منع من رؤية أسرته، وكان الاجتماع الأخير بأفرادها ربيع 1981. حاول المغتربون الأوكرانيون تقديم أعمال ستوس إلى جائزة نوبل للآداب سنة 1985، لكنهم لم يتمكنوا من إعداد جميع المواد وفق إجراءات الترشيح. أتلف حراس المعسكر نحو ثلاثمئة قصيدة لستوس. واحتجاجا على المعاملة القاسية للسجناء السياسيين من قبل إدارة المعسكر، أضرب الشاعر عن الطعام عدة مرات. في 28 آب/ أغسطس 1985 احتجز الشاعر في الحبس الانفرادي فبدأ إضرابًا عن الطعام إلى أجل غير مسمى، وتوفي ليلة الرابع من أيلول/ سبتمبر، ودفن في مقبرة المعسكر في خراج قرية بوريسوفو التابعة لمقاطعة بيرم. تلقت فالنتينا بوبليوخ رسالة تفيد بوفاة زوجها صباح 5 أيلول/ سبتمبر. وخلافًا لطلبها دفن الشاعر من دون حضور عائلته وأقاربه. ولم تمنحها الإدارة الرسمية الحق في إعادة دفن جثته حتى نهاية فترة السجن، وكذلك لم تعد إليها متعلقات ستوس الشخصية. أعيد دفن رفات الشاعر فاسيل ستوس في مقبرة بايكوفو الكييفية سنة 1989.


قصيدتان


هكذا أعيش: قرد بين قرود

متغضّن الجبين، عبوس حزين.

أتخبط بين جدران حجرية قاسية

كعبد لهم، كعبد، عبد بلا قيمة.

قطيع من القرود يمرّ بي

مشيتهم صلبة وبطيئة،

أن تجنّ أسهل من أن تكون على طبيعتك

فلا إزميل هنا ولا مطرقة. 

يا ربي العادل! أي مهمة مملة هذه

أن يعي هزيلو العقول

أنني في هذا العالم مجرد قبضة معاناة،

نحيل مريض، أنني زئبق. 


***

هذا الألم ككحول تبثّ الاحتضار

كيف تيبست حدّ التهشّم؟ يا للأسف.

فاللعنات تعاد طباعتها من جديد،

وأنت تعيد كتابة الأحزان. 

نسيت، منذ زمن، ما معنى أن تعيش،

وأن حولك عالم، وأنك موجود.

نسيتَ كيفية الولوج إلى جسمك

فأنت مشيطنٌ منذ مدة،

وما زلت مشيطنًا حتى الآن. 

تموت وأنت تشعر بوقع خطواتك

على رأسك الأشيب. 



المصدر: جريدة "المدن"، فاسيل ستوس: أن تواجه القهر وحيدًا، عماد الدين رائف، بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.