جنة الملذات الأرضية تنسجها سفيتلانا كيريليوك شعرًا



"الإنسان كالنبتة، يجب أن تكون له جذوره. قد يحدد مكان ودلاته أولويات حياته ونظرته نحو العالم ومحتوى ذاكرته، ذلك المكان الذي سيعود إليه عابرًا السنوات والبلدان والقارات. يتخذ هذا التجذر في الأرض الأم وسمائها شكلا واضحًا لدى أولئك الذين منحهم الخالق موهبة خلق عالمهم الخاص عبر الكلمات، لتوسيع حدود فهمهم له"، بهذه العبارة صدّر أستاذ علوم اللغة في "جامعة ميري كوري سكوفودسكا في لوبلين" إيهور نابيتوفيتش ديوان أشعار سفيتلانا كيريليوك "جنة الملذات الأرضية". جمعت كريليوك في ديوانها الصادر ضمن سلسلة "الشعر الأوكراني في الألفية الثالثة" مختارات من مجموعاتها الشعرية القديمة والحديثة، وقد منحت أولى تلك المجموعات الديوان كله اسمها. وتنتمي كيريليوك إلى ذلك النوع من الفنانين الذين يخلقون عالماً خاصاً بشعرهم، ذا حدود متداخلة بين الأرضي والميتافيزيقي، متجذرا في الفضاء الإنساني الأصيل.


يخترق النهر الأرض الشاسعة الحبيسة، تؤنسن الشاعرة النهر، تقول الشاعرة: 

"تعلم أنك نهرٌ

وأن الوقت عابر على ضفتيك 

أسماكك تتغذى 

بأصدافك الحبلى بأصوات وأصوات 

فيك آثار أنبياء 

ومعابد سفليّة متعالية 

تنعكس ضوءًا في عين القمر

أو في مقلتي بومة عجوز 

أو تغدو غير مرئي 

تتلاشى ببطء وتختفي 

تعبرك قوارب 

تحمل بضائع وأضواء وبشرًا 

يرمون في مياهك المدلهمة

شباكهم السود".  


يُدعى موطن كيريليوك الأصلي "بوكوفينا"، تلك الأرض الأوروبية التي كانت مملكة في العصور الوسطى ثم تنازعتها الممالك والأمبراطوريات والدول المختلفة، وهي اليوم مقسومة إلى شمالية تقع ضمن الحدود الأوكرانية وجنوبية تابعة لرومانيا. وكان قدرها أن تولد في قرية هوربيتسي على الحدود مع رومانيا، وأن تشكل تلك الحدود أحد خطوط طفولتها، فتركض مع قريناتها إلى نقطة لا يمكنهن تجاوزها، لا سياج شائكا هناك بل مجرد خط غير مرسوم بين أعمدة حديدية يفصل أرضين وسماءين بعضهما عن بعض، يجعلك تخطيه في بيئة أجنبية. قسم آخر من طفولتها قضته على حدود أخرى مع مولدوفا ورومانيا في بلدة هليبوكا. سرعان ما ظهر اهتمامها بالقراءة، وكتبت عنها صحيفة محلية أنها القارئ الأصغر في المنطقة. تزامنت سنوات سفيتلانا كيريليوك الجامعية مع تحولات اجتماعية وسياسية كبرى، في زمن أنهيار الاتحاد السوفياتي، الذي ترافق مع مسيرات وتظاهرات ونزعات للعودة إلى الجذور والتقاليد. في عام 1999، دافعت سفيتلانا عن أطروحتها حول دوافع ونماذج الأدب العالمي في أعمال الأديبة الأوكرانية الكبيرة أولها كوبيليانسكا (1863-1942)، وتابعت في مسار البحث الأدبي ما جعل من كيريليوك اليوم من أهم الخبراء في الحداثة الأدبية البوكوفينية. وقد شاركت أخيرًا مع مجموعة كبيرة من الباحثين في واحد من أهم المشاريع الأدبية الحديثة في أوكرانيا، وتمثل في تحقيق شامل للمخطوطات التي تركتها الشاعرة الأوكرانية الكبيرة ليسيا أوكراينكا (1871-1913)، وكانت النتيجة أن صدرت في 25 شباط/ فبراير الماضي الأعمال الكاملة لهذه الأديبة في أربعة عشر مجلدا.  

عاش الشعر في سفيتلانا كيريليوك منذ الطفولة. وهي تلعب على وتري الحدود والزمن في عدد من قصائدها وعلاقة الإنسان بهما، وقد يمتد الزمن على مساحة العمر أو أكثر، تقول في إحدى قصائدها: 



"عبرنا حدود الزمن

كأطفال يتراكضون 

خلف كرة ملوّنة

تدحرجت الكرة على طريق

ومن إلى طريق آخر

ثم إلى غابة مظلمة

نحن لا نزال أولئك الأطفال

لكننا تهنا في الظلمة".  


في التسعينيات ظهرت قصائدها في الصحف الأدبية الأوكرانية عامة، والبوكوفينية خاصة. شعرها يشبه لوحات الرسامين الانطباعيين. تلك التي تتضمن ضربات ريشة عريضة، وتجارب عمية واستعارات بلاغية واسعة المدلولات، توازن فيها ما بين السريالية والتعبيرية لتنقل هشاشة العالم وديناميته في آن. مع أشعار كيريليوك على القارئ أن يقطع مسافة كافية كي يدرك خريطة مسارات "جنّة الملذات الأرضية" التي تدعوه إلى دخولها. يبدو الأمر وكأن عينا القارئ تعتادان مع الوقت على تلك المسارات كما تعتاد العينان على الظلمة المفاجئة فتتلمسان الطريق الرؤية شيئًا فشيئًا. تلك المعالم التي لا تبدو واضحة في البداية ولا تحمل ملامح حادة تجسد العالم على شكل فنّي غني بالانطباعات والمشاعر المنعكسة منه. 

هذه الملامح حين تتجسد مفاهيم في الذهن ستعيدك إلى العنوان نفسه "جنة الملذات الأرضية"، بصيغته الفنيّة الأولى التي رسمها الهولندي هيرونيسموس بوس (1450-1516) لوحة ثلاثية عملاقة تحتل اليوم جدارا في متحف ديل برادو المدريدي، مكثفة الرموز بين الغموض والتعقيد والجمال، استمر في رسمها خمس سنوات تقريبا (من 1500 إلى 1505). ولا تزال سفيتلانا تتابع رسم تلك المسارات، حتى بعد صدور الديوان، نقرأ في بعض قصائدها الأخيرة: 


"حاول أن تبقى متذكرًا هذه الأحلام

لأن الرياح الخريفية هبّت

وها هي السماء تمتلئ بضباب كثيف

يراقبنا عن كثب،

ولم تعد ذيول الثعالب

تختزن حُمرة الأشعة

مثل صباحات مشمسة.


وحدها الأحلام تبقى فاختبئ فيها

كخريف كلّي يسبق كل شتاء،

سواء أأتى مثلجًا أو موحلا قذرًا. 

وأنت حين تحاول تلمّس 

الطريق الذي سلكه الصيّادون،

أن تقتفي الآثار فوق تراب متجمد وتقرأ دلالاتها،

ستدرك أنها العلامة الوحيدة المتبقية

عن وجودك في هذا العالم الكبير،

حيث لا تزال جحور الثعالب متوهجة بالضوء،

أما وجوه الأصدقاء فغدت بعيدة

ولا تظهر إلا في الأحلام". 


المصدر: جنة الملذات الأرضية تنسجها سفيتلانا كيرليوك شعرًا، عماد الدين رائف، جريدة المدن، 8 آذار/ مارس 2021.