الكاتبة ليسيا أوكراينكا "وجه أوكرانيا المشرق" والعالم العربي

 

كتب إيهور أوستاش

السفير المفوض فوق العادة لأوكرانيا لدى الجمهورية اللبنانية

يصادف العام الحالي الذكرى الخمسين بعد المئة لميلاد الكاتبة الأوكرانية الكبيرة والناشطة الاجتماعية والثقافية #ليسيا أوكراينكا. بات اسمها أحد رموز أوكرانيا، وتشكل مع تاراس شيفتشينكو وإيفان فرانكو ثالوثًا من أعظم الكتاب الأوكرانيين. تعتبر في الأدب العالمي وجه أوكرانيا المشرق، في عصر الحداثة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وصفها الشاعر إيفان فرانكو بأنها "الرجل الوحيد في الأدب الأوكراني". كما واكب إبداعها عالم أوكراني مشهور آخر، هو المؤرخ ميخايلو دراهومانوف، الذي كان عمها وكان له تأثير كبير على تطورها ككاتبة. الاسم الحقيقي للشاعرة هو لاريسا كوساتش، ولأن دراهومانوف كان يوقع أعماله باسم مستعار وهو أوكراينيتس، اتخذت لنفسها اسمًا أدبيًا، هو ليسيا أوكراينكا.

ولدت الكاتبة في 25 شباط 1871 في بلدة زفياهيلي (نوفوهراد- فولينسك الآن) في عائلة أريستوقراطية من المثقفين الأوكرانيين. تجلت مواهبها الاستثنائية مبكرًا، إذ تعلمت القراءة في الرابعة من عمرها، وبدأت في كتابة المسرحيات في سن الخامسة، وكتبت قصيدتها الأولى "الأمل" في سن التاسعة، وبدأت أعمالها في الظهور على صفحات المجلات الأدبية وهي في الثالثة عشرة من عمرها. كما أنها كانت تعزف بشكل رائع على آلة البيانو وترسم.

يتكون تراث ليسيا أوكراينكا الشعري من ثلاثة دواوين: "على أجنحة الأغاني" (لفيف، 1893)، و"أفكار وأحلام" (لفيف، 1893)، و"مراجعات" (تشيرنيفتسي، 1902). بالإضافة إلى 115 قصيدة أخرى لم تطبع في ديوان. كما أنها نظمت أكثر من 20 عملاً دراميًا شعريًا، من بينها "أغنية الغابة" و"السيّد الحجري" و"كاساندرا"، وغيرها. أتقنت ليسيا أوكراينكا أكثر من عشر لغات أجنبية، وترجمت أعمالًا لهوميروس، وميتسكيفيتش، وهاينه وهوغو، وشكسبير، وبايرون، وجورج ساند، وغيرهم. بسبب الحظر الذي فرضته الرقابة على أعمالها في وطنها، غالبًا ما كانت تنشرها خارج حدود الأمبراطورية الروسية، في برلين ودريسدن وبراغ وفيينا. أجرت الكاتبة بحوثًا في الفولكلور الأوكراني، وجمعت الأغاني الشعبية، ونفَّذت مشروعًا لتسجيل الأراجيز الأوكرانية التي كان الكوبزاريون (عازفو آلة الكوبزا الوترية) يؤدونها في تلك الحقبة.


كانت ليسيا أوكراينكا، مثل زملائها إيفان فرانكو وأغاتانغل كريمسكي وبانتليمون كوليش، مولعة بالدراسات الشرقية وتاريخ شعوب الشرق وأساطيره وعاداته. وقد ترك ذلك بصمة عميقة على أعمالها الشعرية والدرامية وفي أعمالها المترجمة. حين كانت في التاسعة عشرة من عمرها، صنّفت ليسيا أوكرانكا كتابًا مدرسيًا لأختها حول التاريخ القديم للشعوب الشرقية، يحتوي على أقسام مثل "تاريخ المصريين"، و"تاريخ الآشوريين والبابليين"، و"تاريخ الفينيقيين".

في القسم الخاص بالفينيقيين، تصف الكاتبة بالتفصيل تاريخ المدن اللبنانية الحديثة مثل صور وصيدا وجبيل وأرواد السورية، وتاريخ الحرف الفينيقي، وتذكر أرز لبنان. وقد أشادت ليسيا أوكراينكا بالحضارة الفينيقية، مشيرة إلى أن "المصريين والفينيقيين كانوا الأكثر معرفة بالعالم".

تذكر الكاتبة المدن الفينيقية كذلك في قصيدتها الدرامية "في الغابة" (1897-1909)، التي تصفها في رسالة إلى والدتها بأنها "دراما عن نحات بين البيوريتانيين (أتباع المذهب التطهيري)". تجري أحداث الدراما في أميركا الشمالية في القرن السابع عشر، حيث يتهم المعلم والواعظ غودفينسون النحات ريتشارد آيرون بالردة، لافتتانه بالنحت، الذي لم يتسامح معه التطهيريون، شأنه شأن رسم الأيقونات، تقول: "على مدى القرون كان هناك معلّمان/ لم يخرجا عن سبيل الله،/ هما بتسلئيل وأليآب، اللذان خدما في هيكل القدس/ أما الباقون، عشيرة قايين، فكلهم أحفاد صيدون وصور". هنا تذكر ليسيا أوكراينكا مدينتي صيدا وصور الفينيقيتين اللتين اشتهرتا بالتجارة والحرف والفن كرمزين للثروة والرفاهية والبذخ أيضًا. في العمل نفسه، تلجأ الشاعرة إلى أساطير الفينيقيين وتذكر آلهتهم: مولوخ إله الشمس والنار والحرب وعشتروت إلهة الخصب والحب. تقول: "المراهقة محتارة في القبو/ تدور حول تمثال مولوخ./ فتاة بريئة في ثوب فضفاض/ ارتدته لخدمة عشتروت...".


في العام 1902، نشرت الكاتبة في ديوانها "مراجعات"، مجموعة من ست قصائد تحت عنوان "أساطير"، هي: "أبو الهول"، "رع مينيس"، "الأضحية"، "الأساطير"، "شاول"، و"المأساة". في وقت لاحق، نشرت قصيدتي "أبو الهول" و"رع مينيس" بشكل منفصل تحت عنوان "تخيلات مصرية" في مجموعة "أوراق البلوط" (كييف، 1903). وكانت الشاعرة قد استوحت "تخيلاتها المصرية" من دراستها الآثار المصرية القديمة في متحف برلين، في حزيران 1899.

نظمت ليسيا أوكراينكا قصائد درامية حول موضوع السبي في بابل ومصر، مسقطة إياها على واقع أوكرانيا في الأمبراطورية الروسية، وفق مقاربات تاريخية محددة. كتبت: "كيف أمكن الشعب المصري، المقتدر والمجتهد، أن يرضخ لهذا النير؟ أنا متأكدة أنّ النير لم يلق عليه فجأة، إنما ببطء شديد، كما هي الحال لدينا في أوكرانيا...". في العام 1903، نشرت قصيدتها الدرامية "السبي البابلي" (الأسيرة) في سان ريمو، وتدور أحداثها بالقرب من أسوار بابل، في السهل، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات. في العام التالي، نظمت قصيدة "على الأنقاض"، التي تجري أحداثها في حوض الأردن وعلى أنقاض مدينة القدس. وتأخذنا قصيدتها "في المشغل" (كييف، 1906) إلى ضواحي عاصمة مصر القديمة ممفيس. في العام عينه، 1906، نشرت قصيدتي "نقش في الخراب" و"إسرائيل في مصر"، تحت عنوان "نقوش مصرية".

في العام 1907، نظمت قصيدتها الدرامية عائشة ومحمد (يالطا، 1907) التي تتناول حياة النبي محمد وزوجتيه خديجة وعائشة. في وقت لاحق، مُثّلت هذه الحوارية الشعرية بين محمد وعائشة على خشبة مسرح كييف، من تنظيم ماريا ستاريتسكا وفرقة مدرسة ميكولا ليسينكو للموسيقى والدراما.

كما قدمت ابنة ميخايلو ستاريتسكي عرضًا أول لمسرحية درامية شعرية ذات نكهة شرقية معبّرة بعنوان "حنّة امرأة خوزي"، نظمتها ليسيا أوكراينكا في العام 1909، وتستند إلى قصة حنّة المسيحية المبكرة التي شفاها يسوع، وإحدى النساء اللواتي أتين إلى قبر الرب فوجدنه فارغًا وأخبرن الرسل بذلك (انجيل لوقا 8:3). تدور أحداث المسرحية الشعرية في منطقة الجليل التاريخية، وتحديدًا في صيدون (مدينة صيدا). تكتب ليسيا عن صيدا باعتبارها رائدة في مجال الأزياء في المنطقة، لأنه من صيدا "... تختار الملكات أثوابهن، والقيصر بنفسه اختار هذه الملابس بعدما ذهب بنفسه إلى صيدا...". تتطرق ليسيا في الدراما إلى العرف الشرقي في إرضاء المضيف لضيوفه وتلبية جميع رغباتهم، تقول: "وفق العرف الشرقي، الضيوف/ لا يجرؤون على رفض الهدايا/ لأن في ذلك إهانة لمضيفهم...". وينعكس تقليد الضيافة هذا في العديد من الأمثال والأقوال، على سبيل المثل: "الضيف أسير المضيف، إذ يرحب به المضيف كأمير إلا أنه في الواقع محتجز مثل أسير، ويواكب كأنه شاعر". أثناء الكتابة كانت ليسيا أوكراينكا تتشاور مع أغاتانغل كريمسكي، الذي أمضى نحو عامين في لبنان، وكان يعرف العادات والتقاليد المحلية جيدًا. وكان يترك تعليقاته على هوامش نصوصها. في إحدى رسائلها إليه كتبت: "يمكنك أن تكون على يقين من أن روحي لم تعش في منزل خوزي، وإلا لكانت قد ماتت منذ فترة طويلة".


ارتبطت السنوات الأخيرة من حياة ليسيا أوكراينكا ارتباطًا وثيقًا بمصر. في نهاية العام 1907، شخص الأطباء أن الشاعرة التي كانت تعاني من مرض "السل العظمي" منذ طفولتها، بأن حالتها تفاقمت إلى "السل الكلوي"، وكان السبيل الوحيد للخروج من هذه الحالة هو العلاج المناخي في هذا البلد الأفريقي. أقامت في مصر ثلاث مرات، وقضت فصول شتاء 1909-1910 و1910-1911 و1912-1913.

تعالجت الكاتبة في مصحّة حلوان بالقرب من القاهرة، وكانت هذه المدينة قريبة من أنقاض ممفيس التي وصفتها في عملها. أثارت زيارات الآثار المصرية إعجاب الشاعرة، وفي رسالة لها بتاريخ 3 كانون الثاني 1910، كتبت إلى والدتها: "شاهدنا الأهرامات الضخمة وأبا الهول العظيم. إنه حقًا شيء فريد من نوعه في العالم! ساحر جدًا. والآن فقط تلمست عظمته حتى النهاية، حيث زرت متحف القاهرة". بعد رحلتها الأولى إلى مصر، ولدت مجموعتها الشعرية "الربيع في مصر" وكانت مستوحاة من انطباعاتها عن إقامتها هناك. وتضم هذه المجموعة قصائد: "الخماسين"، "تنفس الصحراء"، "عفراء"، "ليلة عاصفة"، "ضيف من الشمال"، "هبة سرية" و"حلم". غالبًا ما نلاحظ هنا في لبنان ظاهرة طبيعية، وهي الرياح الخماسين الموسمية التي تظهر فوق البحر على شكل شريط رملي برتقالي وتحمل معها الجفاف الصحراوي. وقد عانت ليسيا أوكراينكا من هذه الظاهرة الطبيعية بكل كيانها بسبب المرض، إذ يمكن أن نسميها أيضًا باسم مغنية الخماسين: "الخماسين البرتقالية في الصحراء هبت،/ مُلتهبة شوقًا تندفع في الهواء،/ وهي تلمس الرمال بأجنحتها الجافة/ وتلفح بلهيب أنفاسها القوية...".

نظمت هذه المجموعة الشعرية في حلوان، في نيسان 1910. وفي العام نفسه، نشرت ترجماتاتها لاثنتي عشرة قصيدة من "أشعار مصر القديمة المغناة"، في مجلة "ليتيراتورنو ناأوكوفي فيستنيك" (البشير الأدبي العلمي)، ويزيد عمر هذه الأشعار المصرية القديمة، باستثناء قصيدة "نقش على عمود"، على ثلاثة آلاف سنة. وقد ترجمتها ليسيا أوكراينكا في حلوان نفسها، وصدّرتها بملاحظة: "لم تُترجم هذه الأشعار إلى لغتنا من الأصل المصري القديم، ولكن من ترجمة ألمانية علمية للبروفسور أ. فايدمان، ونقلت من صيغتها النثرية إلى المنظومة".

حول العمل على ترجمة هذه القصائد المغناة كتبت ليسيا أوكراينكا: "طالما أن إيقاع الشعر المصري القديم وطريقة التلفظ بالكلمات يبقى مجهولا بالنسبة إلينا (الكتابة الهيروغليفية تمنحنا أفكارًا فقط بلا أصوات)، أمامنا طريق وحيد للترجمة، لا أن نترجم الرموز بل أن نترجم روح كاتبها".

في رسالة إلى بوريس هرينتشينكو، كتبت ليسيا أوكراينكا أن هذه القصائد أثارت اهتمامها "في تشابهها مع القصائد الأوكرانية... هذه بلاد جميلة وقد بدأت أعتاد على حبّها بالفعل، ولم تعد غريبة عليّ".

حتى قبل وفاتها، في تموز 1913، حين كانت ليسيا أوكراينكا تعاني من آلام المرض وتقيم في جورجيا، أملت على والدتها أفكارا عن مخطط لمسرحية غير مكتوبة بعنوان "على شواطئ الإسكندرية". هناك، في مدينة سورامي، في الأول من آب 1913، توفيت ليسيا أوكراينكا، ثم دُفنت في مقبرة بايكوفو في كييف.

بعد أكثر من قرن على وفاتها، ظهرت الترجمة الأولى لأعمالها باللغة العربية، بقلم أولينا خوميتسكا، الأستاذة المحاضرة في علوم اللغة، مديرة المركز المصري للغة العربية وثقافتها، والمترجم المصري والناقد الأدبي سمير مُندي، الذي كان قد ترجم إلى العربية أيضًا كتابا عن المجاعة (1932-1933). إذ ترجما قصائد مختارة لها، نشرتها "دار العين" في القاهرة سنة 2017. يحتوي الكتاب على مختارات من رسائل ليسيا أوكراينكا إلى عائلتها وأصدقائها من مصحّة حلوان المصرية، وعلى سيرتها ومسرد لأبرز أعمالها، وعلى صور من الفترات التي قضتها في مصر، ومنها صورة لها أثناء إقامتها في فندق "فيلا كونتنينتال"، وكذلك قائمة الطعام في الفندق.


في العام الحالي، ولمناسبة الذكرى اليوبيلية لولادة الشاعرة، تصدر السفارة الأوكرانية في لبنان الجزء الأول من ترجمة أعمال ليسيا أوكراينكا النثرية إلى العربية، بقلم الكاتب الصحافي والمترجم اللبناني عماد الدين رائف، وسيليه جزء ثان. وقد سبق لرائف، وهو باحث في الأدبين الأوكراني والسلافي، أن ترجم إلى العربية دراما إيفان فرانكو الغنائية "الأوراق الذابلة"، و"قصص بيروتية" لأغاتانغل كريمسكي وديوانه الشعري "سعف النخيل"، وكذلك قصائد تاراس شيفتشينكو وفاسيل ستوس. كما ترجم "الموجز في تاريخ أوكرانيا" لألكسندر بالي، وكتاب مؤلف هذه السطور وهو بعنوان "الأوكران ولبنان". في جعبة رائف العديد من المقالات والدراسات والمقابلات المنشورة في وسائل الاعلام العربية حول الثقافة والأدب الأوكرانيين، بالإضافة إلى عشرات الدراسات حول حقوق الإنسان في العالم العربي، التي نشرتها المنظمات الدولية بالعربية والإنكليزية. يتمتع رائف بسمعة طيبة بين زملائه في لبنان والعالم العربي، وهو عضو "اتحاد الكتاب اللبنانيين" و"اتحاد الصحافة اللبنانية"، وكذلك مدير تحرير نشرة "واو" ومجلة "التنوع" الحقوقيتين. عمل في صحيفة "السفير" السياسية اليومية، وكان مديرًا لبرنامج إذاعي ثقافي أسبوعي في إذاعة "صوت الشعب" (2011-2016)، كما حصل رائف على جائزة "الصحافي الاستقصائي – 2009" في مجال التحقيق الصحافي – فئة "حقوق الإنسان في الدول العربية". وتؤثر هذه المروحة الواسعة من اهتماماته المهنية بشكل مباشر على جودة الترجمة التي ينتجها. لا تنطوي ترجمات عماد الدين رائف على أمانة النقل والقيم الجمالية فحسب (تبيان ما أراد المؤلف قوله بالضبط وسمات أسلوبه الفني)، بل تتخطى ذلك إلى فائدة المعلومات، حيث يقدم المترجم مجموعة من الملاحظات والتعليقات التي تساعد القارئ العربي على فهم سياق العمل وتعرفه إلى الحقائق التاريخية والثقافية الأوكرانية. كما أنه صاحب مدونة "دفاتر الأدب الأوكراني" باللغة العربية. في الواقع، إن هذه المهنيّة المتنوعة الجوانب لدى عماد الدين رائف تجعل ترجماته لا تقدر بثمن.

يتضمن هذا الكتاب أعمالا نثرية لليسيا أوكراينكا من ترجمة رائف، وهي القصص القصيرة: هو ذا مصيرها، ليلة العيد، فراشة، أغاني الربيع، في المحنة عبرة، الكأس، ليليا، المدرسة، السعادة، مدينة الحزن، الأوتار الصاخبة، تأخرت، رسالة من بعيد، لحظة، عدوّان، الكفيف، الشبح، المحادثة، إقبال هانم. وهي كتبت بين 1888 و1913.


تحتل الأعمال النثرية مكانة بارزة في تراث ليسيا أوكراينكا الأدبي المتنوع. لكن هذه الأعمال لم تصلنا كلها، إذ لم ينشر الكثير منها خلال حياتها وفُقدت مخطوطات بعضها، أو عثر على أقسام من مخطوطات بعضها الآخر. في إحدى رسائلها الأخيرة إلى أولها كوبيليانسكا، صرحت ليسيا أوكراينكا بأسف أن "النقاد لا يمجدون نثري". بدأت ليسيا أوكراينكا في كتابة النثر سنة 1885، حين قامت مع شقيقها ميخايلو بترجمة ونشر "أمسيات" ميكولا هوهول (نيقولاي غوغول). وقد عاشت منذ أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر في كييف، حيث انضمت إلى عضوية "جمعية بليادا الأدبية"، وترتبط شرارة انطلاقة أعمالها الأدبية الأولى ارتباطًا وثيقًا بهذه الجمعية. في شباط 1887 أكملت قصتها الخيالية الأولى "اللآلئ الثلاث"، التي نشرت بعد سنتين في صحيفة مدينة تشيرنيفتسي "بوكوفينا". كما أن ثلاثة من أعمالها النثرية التي ضمّنتها في نوع "الحكاية" ("الفراشة"، "في المحنة عبرة"، و"ليليا") تدخل في هذا الإصدار.

أما آخر أعمالها النثرية فكان قصة غير مكتملة عن امرأة عربية بعنوان "إقبال هانم". في رسالة لها إلى صديقتها الكاتبة الأوكرانية أولها كوبيليانسكا، كتبت ليسيا أوكراينكا: "أرغب في أن يتاح لي أن أكتب قصة قصيرة ذات موضوع مصري، لكن ليس موضوعا قديما، بل معاصر. كنت مهتمة بأمور حياتية، وعلى وجه الخصوص بالنساء المسلمات المحليات (أتيحت لي الفرصة في العام الحالي أن أتعرف عليهن بشكل أفضل) وكذلك "أطفال الشوارع" المحليين الذين يكبرون "تحت السماء المفتوحة" ويستطيعون بشكل مدهش أن يتدبروا أمورهم. لكنني لن أكتب عن ذلك الآن، سأرجئ الأمر حتى أعود إلى الوطن". وقد جسدت ليسيا أوكراينكا هذه الفكرة جزئيًا في قصة "إقبال هانم"، التي كثيرًا ما كانت تنقطع عن متابعة كتابتها بسبب تدهور حالتها الصحية. في القصة، تتحدث الكاتبة عن التأثير السيئ لحضارة أوروبا الغربية على الحياة اليومية لامرأة عربية تدعى إقبال. المثل الأعلى للجمال الذي تحاول أن تتبعه في كل شيء هو أن تكون شبيهة بالمرأة الأوروبية. نلحظ افتتانًا مماثلا بالأزياء الرومانية في شخصية خوزي، وكيل هيرودوس أنتيباس، حاكم الجليل في المسرحية الدرامية التي سبق ذكرها "حنّة امرأة خوزي"، إذ استقبل النبيل الروماني بوبيليوس وزوجته مارتسيا، وأمر زوجته حنّة بارتداء مجوهرات على الطراز الروماني، وأن تلبس ثوبًا وتسرح شعرها على الطريقة الرومانية. كما أنه خلال اللقاء أن يُنادى وفق اللفظ الروماني خوزانوس، ويسمي عبدته كذلك باسم سابينا غير المحلي. هنا نلحظ بعض أوجه الشبه بين هذه القصة و"قصص بيروتية" لأغاتانغيل كريمسكي، أحد أبرز المستشرقين في العالم، الذي كانت ليسيا أوكراينكا صديقته المقربة. يصف كريمسكي في إحدى قصصه المكتوبة في لبنان، وهي بعنوان "فساد الأخلاق"، تأثير الموضة الأوروبية على جيل الشباب في بيروت.

نُشرت قصة "إقبال هانم" في صفحات "ليتيراتورنو ناأوكوفي فيستنيك"، مذيلة بتعليق من المحرر، مما جاء فيه: "أرادت ليسيا من خلالها أن تعطينا فكرة عن المرأة العربية: مظهرها، مكانتها، ونفسيتها... لقد بدأت ليسيا أوكراينكا بكتابة هذه القصة لتنشرها في المجلة لكنها لم تنهها. تحوم الأفكار المحتضرة لكاتبتنا فوق هذه القصة... وهذه الصفحات هي آخر شعاع قبل حلول الظلام". بالفعل، هذه القصة مثل وتر مقطوع، وهي آخر أعمال الكاتبة العظيمة، وقد أبصرت النور بعد وفاتها.

في الختام، نود أن نعرب عن خالص امتناننا لوزارة الخارجية الأوكرانية وجمعية الجالية الأوكرانية في لبنان، ونشكرهما على دعمهما نشر هذه الطبعة اليوبيلية لأعمال الكاتبة الأوكرانية العظيمة.


المصدر: جريدة النهار، الكاتبة ليسيا أوكراينكا "وجه أوكرانيا المشرق" والعالم العربي، بقلم إيهور أوستاش، 24 شباط/ فبراير 2021.