وصل العالم اللغوي والمستشرق أغاتانغل كريمسكي إلى بيروت بحرًا أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1896 وغادرها بعد سنة ونصف السنة منتصف أيار/ مايو 1898، إلا أنه لم يبق كل هذه المدة في حي الرميل البيروتي، حيث قطنت أسرة زميله ميخائيل يوسف عطايا، بل رافق هذه الأسرة لقضاء فصل الصيف في بلدة الشوير الجبلية، فقضى فيها نحو ثلاثة أشهر بين 3 تموز/ يوليو و18 تشرين الأول/ أكتوبر 1897. وأرسل من هناك عددا من الرسائل إلى أقاربه وأساتذته وزملائه.
وقد كشف فريق بحثي رأسه أستاذ العلوم التاريخية في جامعة قازان الفيدرالية البروفيسور راميل ميرغاسيموفيتش فالييف مؤخرًا عن رسالتين لكريمسكي أرسلهما إلى أستاذه البروفيسور في جامعة موسكو الأكاديمي ومؤرخ الأدب الروسي ألكسندر نيقولايفيتش فيسيلوفسكي، نشرنا أولاهما وكانت من بيروت في 31 كانون الثاني/ يناير 1897، وها هي الرسالة الثانية التي أرسلها كريمسكي من قرية الشوير في 21 تموز/ يوليو 1897. وننشر الرسلتين بالتزامن مع بالتزامن مع نشر دورية معهد الدراسات الشرقية التابعة للأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو مقال علمي طويل عمل عليه البروفيسور فالييف وفريقه البحثي. يتحدث كريمسكي في رسالته الثانية عن عمله على نسخ المخطوطات العربية، وجزء كبير منها يحتفظ به قسم المخطوطات في جامعة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية في كييف اليوم ("ذخائرنا العربية على ضفاف الدنيبر" بحث ضمن كتاب "من بيروت وعنها"، بيروت: دار المصور العربي، 2018)، وعن تغير المزاج في بيروت تجاه روسيا القيصرية ومواطنيها، وعن المؤسسات التعليمية، والحياة الثقافية في بيروت والشوير.
أبرز ما جاء فيها:
"لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً للرد على رسالتك، لأنه توفرت لدي إمكانية الوصول إلى مكتبات مختلفة تضم مخطوطات. اقتناؤها ليس بالمستطاع، كما أن أجرة النسّاخ هنا مرتفعة للغاية، لذلك كان علي أن أصنّف بنفسي هذه المخطوطات من حيث الأهمية، وأنسخ الأكثر أهمية بينها أو مقتطفات منها. كنت في عجلة من أمري لأستغل كامل الوقت قبل الإجازة، حتى أن كل الناس غادروا بعيدًا عن بيروت، لذلك كنت أؤجل الكتابة إليك من يوم إلى آخر، إلى أن انتقلت أخيرًا إلى الجبال هربًا من حرارة بيروت الجهنمية.
لقد تغير المزاج السوري بشكل كبير في الآونة الأخيرة. ذلك السابق لروسيا كمدافع عن المسيحية تلاشى تمامًا. أثارت مساعدتها للأتراك خلال الحرب اليونانية التركية استياءً تجاهها في الشرق لا يمكن وصفه. وقد عانيت شخصيًا بشكل جزئي من هذا المزاج. بطبيعة الحال، العرب الذين يعرفونني يفهمون أنني يجب أن أعتبر صديقًا للعرب، على الأقل صديقًا لتاريخهم وأدبهم. حتى أولئك، أثناء فترة الحرب، باتت علاقتهم بي باردة وأسمعوني تعليقاتهم المسمومة عن روسيا. أما الأشخاص الذين لا يعرفونني شخصيًا، وسمعوا فقط أنني روسي، مثل أهالي التلاميذ وأصحاب المدرسة [مدرسة باكورة الإحسان] أظهروا العداء، وفي المحصلة، اضطرت المعلمات الروسيات إلى رفض الخدمة في "الجمعية الفلسطينية" والمغادرة إلى روسيا، وبالنسبة للأطفال فقد انهار العام الدراسي. في المدرسة الأرثوذكسية للذكور "الثلاثة أقمار"، التي يتماثل برنامجها الدراسي مع برنامج معهد سرسق للإناث، لاقت الدراسة نجاحًا أفضل.
في المناهج التعليمية لا وجود لمواد تعليمية عامة. الوضع أفضل لدى اليسوعيين، إذ إن لديهم كلية طبية [اليسوعية – جامعة القديس يوسف حاليًا] ومدرسة ثانوية مدتها ثماني سنوات دراسية. لكن التعليم في الثانوية تقليدي إلى أقصى الحدود وتكاد تكون مدرسة ابتدائية. الأفضل هنا كلية الطب وثانوية الإرسالية الأميركية (البروتستانتية). إلا أن الجانبين الفلسفي والتاريخي ضعيفان للغاية فيهما، أما العلوم الطبيعية فتحظى بتقدير أعلى. لسوء الحظ، حتى هناك ينبغي التدخل للحدّ من تأثير تدخل اللغة العربية فالشكل يغلب المحتوى العلمي.
على سبيل المثال، أسس خريجو الكلية وطلابها الحاليون [الكلية البروتستانتية السورية – الجامعة الأميركية في بيروت حاليًا] جمعية علمية أدبية، وبدأت هذه الجمعية بعقد لقاءات عامة تهدف إلى تثقيف الجمهور. وقد حضرت لقاءين من هذه اللقاءات فضول كبير، كما أجريت الكثير من المحادثات مع المشاركين. خصص اللقاء الأول للكيمياء: تاريخ الكيمياء، الأوكسجين، إمكانية تطبيق مادة الكيمياء في الحياة. بين المحاضرات، ولجذب الجمهور، خصصت وقفات موسيقية عبارة عن عزف على الفلوت والكمان.
كان الجمهور متنوعًا، بمشاركة من بعض النساء. خرج شاب على خشبة المسرح وقرأ مقدمة شعرية حول تاريخ الكيمياء، وكما عرفت لاحقا فإن أحدًا من الحضور لم يفهم هذه المقدمة، كما اعترف لي طلاب الكلية. يتبعه سرد سطحي بلا طعم عن تاريخ الكيمياء، وهو بالإضافة إلى أنه غير مفهوم فقد صيغ بلغة أدبية صعبة، علمت لاحقًا أن مؤلف النص اختار عمدًا كلمات غير مفهومة مستعينًا بالمعجم. كانت المحاضرة عبارة عن تمرين في الخطابة، ولا شيء أكثر من ذلك. كان المحاضرون يقومون بحركات جسدية قوية ويشيرون بفخر بأيديهم، ويتلون أبياتا من الشعر كلما قالوا خمس كلمات. وبفضل هذا الشغف غير المسوغ لاستخدام الشعر في كل مكان، فقد تمكن العرب منذ فترة طويلة أن يتحولوا من الشعر إلى النثر الخشن. وأخيرًا، من دون مناسبة، يشيد المحاضر بـ "سيدنا المعظم عبد الحميد خان". ثم كانت محاضرة "الأوكسجين" أكثر ابتذالا، لم يفهمها الجمهور كذلك. فقد احتوت هذه المحاضرة الطويلة على فكرة واحدة وهي أن المرء لا يستطيع أن يعيش من دون أوكسجين، ولإثبات ذلك ساق مثالا وهو أن أي طائر يموت تحت غطاء المنطاد. وفوق جثة الطائر، قرأ المحاضر أبيات رثاء، وبدا أسوأ من المحاضر السابق. بشكل عام، كان يرش أبيات الشعر في كل خطوة. بلا شك، تركت قصته عن الأوكسجين انطباعاً كوميدياً عندي. المحاضرة الثالثة، التي تناولت استخدام الكيمياء في الحياة حملت عنوانًا صاخبًا "الكيمياء والتمدن"، كانت أيضًا مزيجًا من الشعر والنثر، واختزلت معنى الكيمياء بحقيقة أنها توفر وسيلة لصباغة الحرير بحيث لا يلمع الصباغ. أكثر المحاضر من الثناء على عبد الحميد في غير موقع من المحاضرة.
اللقاء الثاني الذي حضرته لهذه الجمعية كان مخصصًا لموضوع: "أيهما أرقى حياة البدو أم حياة الحضر؟". تحدث أربعة محاضرين، اثنان عن البدو واثنان عن المدينة، ونظرًا لبساطة الموضوع بشكل عام، فقد فهم الجمهور أكثر من المرة السابقة. لكن ما الذي قدم في اللقاء؟ جادل المدافعون عن البدو بأن هناك أمانة في الصحراء بينما في بيروت لا يمكن ترك الأبواب مفتوحة، وأن السعادة تكمن في التقليل من الاحتياجات. كان كل هذا محتملاً نسبيًا على الرغم من أنه قيل بتبسيط شديد، وكانت الحجة الأكبر "كان آدم وحواء سعدين عندما عاشا في الجنة، يأكلان الفاكهة ويلبسان ثيابًا مصنوعة من أوراق التين". أما معارضو البداوة فانتفضوا بشدة، قائلين إن الإنسان إذا آلمه ضرسه في الصحراء فلن يجد طبيبًا، وإذا ما أرادت امرأة أن تطهو عشاء لائقًا فلن تجد أي مؤن... كان تعاطف الجمهور بلا شك مع هذا الرأي.
ليس لدى اليسوعيين مثل هذه اللقاءات، إلا أنهم اشتهروا بـ"الكوموديا"، أي الدراما. حضرت على سبيل المثال مسرحية "شهيد الوفاء" التي قدموها. الحبكة مأخوذة من تاريخ العصور الوسطى الإنكليزية ومعالجة باللغة العربية. بناء الدراما شبه كلاسيكي وقد أحرج ذلك المؤلف كما اعترف لي. اتضح أن هذه الدراما لم تكن معروفة لدى طلاب الكلية. يخاف اليسوعيون من حبكات المسرح الفرنسي لدرجة أنهم لا يقدمونه لطلابهم على الإطلاق. صحيح، في بعض الأحيان، بالإضافة إلى كلاسيكية الدراما المعاد تأليفها، يقدمون شكسبير بالعربية، ماكبث على سبيل المثال. لكن حفاظًا على الأخلاق، تحذف الأدوار الأنثوية فيظهر والد ماكبث مثلا مكان الليدي ماكبث، ما دفعه إلى ارتكاب الجريمة.
تحاول "مدرسة الثلاثة أقمار" تقديم مسرحيات درامية للتنافس مع اليسوعيين. وقد شاهدت مسرحية "المحامي المحتال" على مسرحهم. واتضح أنها إعادة توليف لمسرحية "المحامي باتلين" وفق قواعد الذائقة العربية [ La Farce de Maître Pathelin - مسرحية فرنسية هزلية تعود إلى القرن الخامس عشر]. فقد أضيفت شخصية "المحامي الخيّر" إليها، فنطق بعبارات مبهمة عن الصدق بنبرة مثيرة للشفقة، وتخللت مطالعته أبيات شعرية حديثه وثيقة الصلة بما يقول، كأمثال سانشو بانثا، وقد أفسدت هذه الإضافة الكوميديا إلى حد كبير[سانشو بانثا: أحد أبطال رواية دون كيخوته للكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس (1547-1616)]. بعد انتهاء العرض، قلت لأحد مديري المدرسة: "لقد أعدت توليف مسرحية المحامي باتيلين الفرنسي، لكنك لم تشر إلى ذلك على ملصق المسرحية". أجابني: "حسنًا، الأمر غير مهم، في الواقع هذه نسخة جديدة من مسرحية فرنسية قديمة نوعًا ما... أعتقد أنها كانت من الستينيات". حدقت فيه غير مصدق: "كيف؟ الستينيات؟!"، فاستدرك: "حسنًا، ربما السبعينيات". ثم اتضح لي أن لديه نسخة مطبوعة من الستينيات بالفعل. ومحدثي هو مدرس للغة الفرنسية في المدرسة و"أفضل متذوق لتاريخ الأدب الفرنسي".
مع بداية شهر تموز غادر الجميع من بيروت، وأغلقت مكتبات المدارس والمكتبات الخاصة. ولم يكن لدي ما أفعله في بيروت. وبما أن درجات الحرارة ارتفعت بشكل لا تصدق، حاولت الانتقال إلى الجبال. فور وصولي، كانت المدرسة الأرثوذكسية المحلية تعرض مسرحية. أعادوا توليف مسرحية "استير" [سفر استير من التوراة]، وكان رجال البلاط الفارسيون يرتدون فيها عباءات نسائية عصرية. أعرب صاحب المدرسة، وهو قسّ، عن أسفه الشديد لكوني لم أشاهد مسرحيته السابقة، التي حملت عنوان "هوراتي"، وهي "تروي عن الحرب بين روما وألبا لونغا [مدينة رومانية قديمة تقع جنوب شرق روما، الموطن الأسطوري لروميلوس وريموس]، حين قتل هوراتي كورياتي [شخصيتان أسطوريتان من القرن السابع قبل الميلاد]، لكن شقيقة هوراتي لم تكن سعيدة بفعلته، فما كان منه إلا أن أطلق عليها النار من مسدسه فأرداها. لقد صنعنا هذا المشهد بذكاء! كان الممثل على المسرح يحمل مسدسًا فارغًا، فيما خلف الكواليس أطلق النار من النافذة شخص آخر زودناه بمسدس محشو. فسقطت شقيقة هوراتي كما لو أنها قتلت حقًا. كاد الجمهور أن يُجنّ، أن يفقد عقله".
بطبيعة الحال، مسرحية "هوراتي" هذه ما هي إلا نسخة معرّبة من الدراما الفرنسية الشهيرة. أما الكاهن الذي زوّد الرومان بمسدسات فلم يدرس في أي مكان، وأدار العرض معلم اللغة الفرنسي الذي تخرج من دورة يسوعية ومعلم اللغة الإنكليزية الذي أنهى دورة عند الأميركيين...".
يحتفظ "الأرشيف الحكومي للأدب والفن" في موسكو بمخطوطي رسالتي كريمسكي إلى أستاذه البروفيسور في جامعة موسكو الأكاديمي ومؤرخ الأدب الروسي ألكسندر نيقولايفيتش فيسيلوفسكي، وهما تتألفان من 16 صفحة (الملف 80، الوحدة الأولى، الوثيقة 132).