يصعب أحيانًا فصل الحاضر عن الماضي، فتكون نتيجة التفكير أسئلة لا تجد أجوبة لها. من يدري كيف سيكون لقاء صديقين قديمين بعد سنوات طويلة؟ ما الذي سيحدث؟ هل هو وقت لإعادة جمع أحجار متناثرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين يبحثان عن هذه الأحجار؟ في الوطن أو في الغربة؟ في الحاضر أو في المستقبل؟ هل بات متاحًا لنا، ما دمنا رهائن جدراننا اليوم، أن نعيد ترتيب الأصدقاء القدامى والعلاقات والمواقف والأشياء في ذاكرتنا، في آلية تشبه إعادة ترتيب الكتب على رفوف مكتباتنا؟ أين نجد الإجابات على أسئلة كهذه، وهل هي مطلوبة حقًا؟ من النصوص المدهشة في معالجة أسئلة كهذه رواية "زمن الأحجار المتناثرة" لفولوديمير سامويلينكو، الكاتب الأوكراني. تطل عليّ نستختي الموقعة من الرواية اليوم، من بين أكوام الكتب، وأنا أقضي المدة الأطول في المنزل بعدما كنت لا أحل فيه إلا لمامًا.
الكاتب وقصته
ولد فولوديمير نيقولايفيتش سامويلينكو في كييف العام 1963. تخرج في كلية الجغرافيا في جامعة تاراس شيفتشينكو الوطنية في كييف. عمل في معهد الأحياء المائية التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية، وشارك في العديد من البعثات العلمية في أحواض دنيبروبيتروفسك، ومصب دنيبروبوغ، ومصبات أنهر جنوب أوكرانيا، والبحر الأسود، وما وراء البايكال. مرشح لدرجة العالمية في العلوم الجغرافية، يشغل الآن منصب كبير الباحثين في المعهد الأوكراني للأرصاد الجوية. كاتب، ومدير مشارك في دار "نيكاسنتر" للنشر. التقينا في بيروت، وكان في عداد وفد جمعية الناشرين الأوكرانيين، التي عقدت لقاء مع الناشرين اللبنانيين ضمن فعاليات "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" في دورته الأخيرة.
في روايته، الواقعة في 168 صفحة، يدفع سامويلينكو القارئ إلى الماضي المضطرب، إلى تسعينيات القرن العشرين، الفوضى العارمة المتعددة الصعد التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي والتي استمرت لأكثر من عقد من الزمن، ثم يعود به ليوم واحد إلى الحاضر. للقصة بطلان، أنطون وأندريه، وتتوالى فصولها القصرة (41 فصلا)، ليحمل كل واحد منها اسم أحد هذين الصديقين اللذين باعدت بينهما السبل والسنوات.
أنطون، المؤرخ الأكاديمي وناشر الكتب الناجح في العاصمة كييف، وأندريه المهاجر إلى إحدى الدول الإفريقية، الذي تسلق سلّم الفساد وغدا يحرك حكومة إحدى بلدان القارة السمراء بأصابع الرشوة والغش. يعود أندريه إلى أوكرانيا، ويرغب في لقاء مع رفيقه القديم، الذي كان زميل الدراسة والحب الحياة المشتركة، وغدا لا أحد، إن لم يكن عدواً في المبادئ والأفكار. الفصل الوحيد الذي لا يحمل اسم الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية، هو بعنوان "الكون"، ومنه: "... القدر، أو الكائن الذي يتحكم به، ضحك بهدوء على كليهما، وابتهج لأن زمن الأحجار المتناثرة قد أزف، مع وقت جمعها لم يحن بعد. كان مفتونًا بكل دوافعهما السخيفة بأحلامهما المضحكة، بالكبرياء، بالفخر المتحكم بأفعالنا نحن البشر وتصرفاتنا. وعلى ماذا نصرف أيام حياتنا، وما الذي نبقيه وراءنا، وما كل ذلك إلا فراغ الفراغ". قد تنفع محاكاة "سفر الجامعة"، الذي بقي سبب وجوده ضمن أسفار "الكتاب المقدس" لغزًا. ففيه "لكل شيء زمان ولكل أمر وقت، للولادة وللموت وقت، للغرس وقت ولقلع المغروس وقت، للقتل وقت وللشفاء وقت، للهدم وقت وللبناء وقت، للبكاء وقت وللضحك وقت، للنوح وقت وللرقص وقت، لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة، للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت... للحب وقت وللبغضة، للحرب وقت وللسلم وقت".
لا تتعلق العداوة بين رفيقين قديمين بالثالوث الأبدي للمكائد والتناحر: المال والجنس والسلطة، بل بمسارين مختلفين في حياة شديدة التعقيد. وفي ظلال التلاقي والتباعد والتوازي في السرد إطلالة على تاريخ من العلاقات المعقدة بين شخصين، تخال أنهما ظلان يعبران عن انفصام شخص واحد، فتخرج بفكرة أن كل شيء في العالم متصل بنسق واحد أو نظام واحد، وهذه هي الرسالة التي أراد أن يوصلها الكاتب. أو ربما على طريقة الكاتب الدانماركي بيتر هيوغ، في مجموعته "القصص الليلية": "قال الهندي: والدتي كانت تعرف الكثير من القصص، وكانت تتحدث عن الحياة، كانت للقصص بدايات متعددة ونهايات متوقعة. وبهذا الحياة مثل هذه القصص، لذلك يغدو لأدائنا فيها أهمية كبيرة. فالأداء هو التفسير الأكثر احتمالا لانتقالنا من البداية غلى النهاية. كل الناس، باستثناء قلة حققت التنوير الكامل، يحتاجون إلى مثل هذا التفسير".