مئة عام على الهجرة الأوكرانية إلى لبنان

قرب كنيسة مار متر - الأشرفية ملجأ المهاجرين مطلع القرن الماضي

تعتبر "الهجرة الأوكرانية" جزءًا من هجرة رعايا روسيا القيصرية مطلع عشرينيات القرن العشرين، وهي لم تكن هجرة طوعية، بل كانت عبارة عن نزوح قسري لأسباب سياسية وفرار جماعي لدوافع أمنية. فقد انتهت الحرب الأهلية الروسية رسميًا في 11 تشرين الثاني 1920، حين لم تستطع فرق الجيش القيصري الأبيض أن تصد هجوم الجيش البلشفي على سيفاستوبل، آخر المعاقل القيصرية في القرم وكان البحر هو الملاذ الوحيد. وقع القائد الأعلى للجيوش الروسية اللفتينانت جنرال البارون فرانغيل بين خيارين، إما المواجهة والموت أو أن يعلن بدء عملية الإخلاء، وبالتالي خسارة الوطن. وهكذا حملت سفن الأسطول القيصري التي زاد عددها عن مئة وخمسين، نحو مئة وستين ألفاً من العسكريين والمدنيين، وكان بينهم نحو سبعة آلاف طفل، فكانت كبرى موجات الهجرة الروسية الجماعية. وقد زاد مجموع المهاجرين الذين تفرقوا في شتى أنحاء العالم بين 1918 و1923 عن نصف مليون شخص.

يدخل في عداد "المهاجرين" جميع أبناء الشعوب والقوميات التي كانت تحت سلطة روسيا القيصرية وضمن حدودها في قسميها الأوروبي والآسيوي، ما يعني أن المهاجرين كانوا من قوميات مختلفة. وقد تمايز الأوكرانيون إلى حد ما عن اللاجئين الآخرين من رعايا روسيا القيصرية في دول الشتات.

لماذا؟ وهل كان ثمّة دولة تُدعى أوكرانيا آنذاك (يُطرح هذا السؤال اليوم بشكل استنكاري)؟  


الجمهورية الشعبية

على بعد يصل إلى نحو ألف كيلومتر غربًا اتخذت الحرب شكلًا آخر، فبعد هزيمتها، تفتّتت الإمبراطورية النمساوية المجريّة إلى دول مستقلة عديدة. وكانت المنظمات البولندية في غاليسيا تعتبر المنافس للسكان الأوكرانيين بين مدينة لفيف وهيل، وياروسلاف، وبيرشميل (تقع الثلاث الأخيرة اليوم ضمن الحدود البولنديّة). أعلن المجلس المركزي الأوكراني، بتاريخ 19 تشرين الأول 1919، سيادة الدولة الأوكرانيّة على جميع الأراضي التي تقطنها القومية الأوكرانيّة في غاليسيا، وبوكوفينا، ومنطقة الكاربات. وأعلن عن وضع دستور ديمقراطي للبلاد، وانتخاب يفهيني بيتروشيفيتش رئيسًا لها. وليلة الأول من تشرين الثاني 1919، احتلت وحدة مشاة بقيادة الضابط دميتري فيتوفسكي جميع المرافق الحكوميّة والعامة في مدينة لفيف. وقامت "الجمهورية الشعبيّة الأوكرانية الغربيّة" على أنقاض السلطة التابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية، وأعلن الأوكرانيّون الغربيّون أنّ جمهوريتهم جزء لا يتجزّأ من "الدولة الأوكرانيّة الكبرى"، وسادت فكرة وحدة الأراضي الأوكرانية، واعتبر كل من ينتمي إلى القومية الأوكرانية من رعايا الجمهورية الشعبية "التي ستعيد أمجاد كييف-روس".

في سوريا ولبنان، عينت الجمهورية الشعبية البروفيسور ألكسي هريهوروفيتش بوهوليوبسكي (المولود في كييف سنة 1888) في كانون الأول 1922 قنصلا فخرياً لدى إدارة الانتداب الفرنسي، ليرعى شؤون اللاجئين الأوكرانيين في لبنان وسوريا. لكن أوكرانيا أواخر تلك السنة باتت جزءًا من اتحاد جمهوريات السوفيات الاشتراكية، وغدت حكومة الجمهورية الشعبية في المنفى، فتابعت مناهضة النظام البلشفي ساعية إلى استقلال أوكرانيا من جهة، مع سعيها إلى رعاية شؤون مواطنيها المهاجرين.  

فلول الجيش الأبيض تغادر سيفوستوبل خريف 1921


لاجئون تحت الانتداب

كشف البروفيسور إيهور أوستاش، وهو السفير الأوكراني الحالي بلبنان، (بكتاب "الأوكران ولبنان"، كييف، دار دوليبي، 2019) عن رسالة ألكسي بوهوليوبسكي إلى وزارة خارجيته، في 7 شباط 1923، مما جاء فيها: "اليوم، أعتبر أنّه من الضروري أن أقدّم هنا بعض الاهتمام بالمدن السورية، حيث تتواجد غالبية المهاجرين الأوكرانيين ونبذة عن ظروفهم وتطلعاتهم. من دون شك، تعتبر مدينة بيروت أبرز نقطة لتواجد المهاجرين الأوكرانيين، خصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي جرت في تسارهورود (اسم القسطنطينية في الأدبيات السلافية). ليس لدي معلومات مؤكدة بشأن الوضع الحالي، لكن في شهر تشرين الأول من العام الماضي، كان يتواجد في بيروت أكثر من مئة أوكراني، معظمهم يعترفون بأنهم من مواطني الجمهورية الشعبية الأوكرانية.


المهاجرون الأوكران ينتمون إلى مختلف طبقات المجتمع، بينهم الملاك الزراعيون والمثقفون، ولم تنشأ لديهم أي منظمات، لأنها غير موجودة في سوريا عمومًا.. وكان هؤلاء المهاجرون ولا يزالون يعانون من أوضاع صعبة ومرهقة للغاية، وذلك بسبب الافتقار إلى الوظائف ومصادر الدخل، لأن جميع الوظائف القليلة الخاصة بالمثقفين كانت مشغولة بالفعل، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى الحِرف، وهي غير متيسرة أبدًا للأوكرانيين، لأن جميع هذه الحرف يشغلها الأرمن اللاجئون من الأناضول، والذين يعملون في سوريا بأعداد كبيرة جدًا ولمدة 13 ساعة في اليوم مقابل أجر زهيد للغاية، فهم يتقاضون من 25 إلى 30 قرشاً سورياً في اليوم الواحد.

في ما يتعلق بأوضاعهم، فإن غالبية المهاجرين الأوكرانيين يفتقرون إلى أبسط سبل العيش، وهم يعيشون على عطاءات كنيسة مار متر، مع زوجاتهم وأطفالهم، أما الآخرون فيؤويهم ما يسمى بـ"البيت الروسي"، حيث تشكلت مجموعة أوكرانية متماسكة إلى حد ما، تأسست من قبل المزارعين والطلاب.

أعرب الجميع عن أسفهم الشديد لافتقارهم إلى المطبوعات الأدبية الأوكرانية والمعلومات ذات الصلة، إلى جانب رغبتهم في وجود ممثل للجمهورية الشعبية الأوكرانية في سوريا. يعيش معظم اللاجئين الأوكرانيين على أموال المواطنين الأرثوذكس العرب والبطريرك الأنطاكي غريغوريوس الرابع، في الوقت عينه فإن الأرثوذكس العرب شعب فقير، وهم يهاجرون إلى أميركا، مثلهم مثل السوريين عمومًا.

يوجد عدد قليل من المهاجرين الأوكرانيين ممن يعملون مع الفرنسيين سائقين وعمال مطابع، وما إلى ذلك. لكن الأمر ليس سهلاً، حيث إن التخفيضات في عدد العمال رهيبة، وقد أدت إلى طرد الموظفين، وليس من مهاجرينا وحسب، بل طاولت السوريين والفرنسيين أنفسهم. تتوفر وظائف محدودة في المدارس العربية، وحصريًا لمدرسي اللغة الفرنسية، الحاصلين على شهادة الدبلوم من المؤسسات التعليمية العالية، لكن هذه الوظائف لم تعد متوفرة بسبب قلة المدارس الأرثوذكسية.

يختلف الوضع في دمشق عما هو في بيروت فعدد المواطنين الأوكرانيين يتراوح بين 25 و30 شخصًا، وهو عدد غير ثابت. فقد يتواجد فيها أحيانًا نحو ستين شخصًا. كما ويدعم الأرثوذكس العرب هؤلاء المهاجرين، ولعل الأكثر حظًا بينهم، هم من يحظون ببعض الوظائف التربوية بشكل أساسي.

نسخة من تقرير بوهوليوبسكي عن أوضاع اللاجئين (المصدر الأوكران ولبنان)

بشكل عام، تجدر الإشارة إلى أن المتخصصين الوحيدين الذين يمكنهم العثور على عمل أو وظيفة، هم المعلمون الذين يتقنون اللغة الفرنسية بشكل جيد، والتي من دونها يجد العرب أنفسهم صعوبة في العمل. ولا يجيد المهاجرون الأوكرانيون، في معظمهم، هذه اللغة، الأمر الذي يحرمهم من إمكانية الحصول على عمل مناسب. لذلك رجع جميع اللاجئين الوافدين إلى دمشق أدراجهم إلى بيروت، مع أن الوضع فيها ليس أفضل. وبسبب الظروف المذكورة أعلاه، بقي المهاجرون الأكثر معرفة وتعلمًا في دمشق، إلا أنهم غير منظمين تمامًا.. وقد طلبوا مني أن أغتنم فرصة ردي عليكم لتهنئة حكومة الجمهورية الشعبية الأوكرانية، معربين عن رغبتهم الصادقة في عدم نسيان وطنهم في غربتهم البعيدة. بالإضافة إلى هؤلاء، يعيش عدد من الأوكرانيين في أنطاكيا وطرابلس والاسكندرون وحلب".

يبقى البحث مفتوحًا بشأن تتبع مصائر هؤلاء المهاجرين، الذين لم يكن لبنان بلد لجوئهم الأخير بسبب شظف العيش فيه، فهاجروا غربًا إلى أماكن أخرى، في مقابل قلة منهم حظيوا بالعمل لدى الإدارة الفرنسية أو ضمن "الفيلق الأجنبي الفرنسي"، الذي كان يعد المجندين بالجنسية الفرنسية بعد خمس سنوات من الخدمة.

في المحصلة، في رده على رسالة ألكسي بوهوليوبسكي عبر وزير خارجية الجمهورية الشعبية توكارجيفسكي – كاراشيفيتش عن رأيه في ضرورة إنشاء جمعية تنظم الجالية الأوكرانية في دمشق وبيروت، ووعد بإرسال الكتب والدوريات الأوكرانية إلى مواطنيه. إلا أن هذه الرغبة لم تتحقق آنذاك، بل كان عليها أن تنتظر نحو قرن من الزمن لتنشأ "جمعية الجالية الأوكرانية في لبنان" سنة 2017. ولهذه الجمعية قصة أخرى.


المصدر:  مئة عام على الهجرة الأوكرانية إلى لبنان، عماد الدين رائف/ صحيفة "المدن"، 15 آذار/ مارس 2022.