كييف: جولة في شارع أندريفسكي.. يختصر تاريخها


خرجتُ من مبنى البريد المركزي وسط كييف، عن يساري عشرات هواة جمع الطوابع البريدية افترشوا الرصيف يعرضون مجموعاتهم الأنيقة. تركتُ شارع الخريشاتيك الذي يُدّعى أن أمير "كييف روس" في الأزمنة القديمة، فولوديمير الكبير، أخرج أهالي المدينة كلهم من بيوتهم إليه وعمّدهم فيه، بعدما اهتدى إلى الدين المسيحي البيزنطي، وأمر جنوده أن يحرقوا عظيم آلهة السلاف بيرون وأن يرموه في نهر الدنيبر.

أتوجه صعودًا نحو "الجبل الأجرد" المرتبط منذ عهد الوثنية بطقوس السحر والشعوذة، وقوى الطبيعة الخارقة. وكانت ساحرات كييف الشهيرات تتدفقن إلى قلعته أيام السبت عابرات الدرب نفسه، حيث منحدر أندريفسكي اليوم. وللقلعة هذه دور آخر، فقد دُمرت كييف جزئيًا إبّان الغزو المغولي عام 1240، ثم غدت جزءًا من دوقية ليتوانيا الكبرى، التي كان مركزها في هذه القلعة، فباتت المدينة مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا مهمًا لمدة ثلاثة قرون.


من بوديل

يندر أن نجد من قصد العاصمة الأوكرانية زائرًا ولم يقطع هذا المنحدر الذي يضج بالحياة ليل نهار، وأضحى أواخر حقبة أوكرانيا السوفياتية، بعد إعادة بنائه في ثمانينيات القرن الماضي، قبلة سياحية على الرغم من صعوبة تسلقه. أما سكان المدينة فيفخرون بهذا الشارع، الذي أجرى فيه العالم فيكنتي خفويكا حفرياته وعثر على لقى أثرية، مكتشفًا "ثقافة تريبوليا" و"حقول المدافن" الغامضة التي تعود إلى أولى الجماعات البشرية التي استوطنت المكان.


في الأسفل، أنتظر قرب أبرز معالم حيّ بوديل "أكاديمية كييف موهيلا"، وهي واحدة من أقدم المدارس الأكاديمية اللاهوتية في أوروبا الشرقية، تأسست عام 1615. وتلقى طلابها تعليمًا يتوافق ومعايير الجامعات الأوروبية، وشكل خريجوها النخب السياسية والفكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. بالقرب منها مسرح بوديل الشهير، حيث نُظم السنة الماضية حفل "جائزة دراهومان برايز" بنسخته الأولى.

يصحبني في الجولة مدير متحف الشارع البروفيسور دميترو شلينسكي، ويعدني بنسخة من مؤلفه الضخم عن تاريخ الشارع في ثلاثة مجلدات. يحدثني عن ابن دمشق توفيق جبرايل كزما، بالنسبة إليّ كان صديق ميخائيل نعيمة ومترجم أعماله إلى الروسية، أما بالنسبة إلى أهل كييف فكان مؤلف أول كتاب مدرسي للغة العربية، ومؤسس المدرسة الأوكرانية للدراسات الشرقية، وعميد كنيسة أندريفسكي، وقضى حياته في غرفة صغيرة في المنزل الخشبي الرقم 34 في الشارع، حيث كان يجتمع دائمًا بعديد من طلابه.

نقصد أبرز معالم الشارع، أي كنيسة أندريفسكي (القديس أندريه أو أندراوس) المبنية على الطراز الباروكي، والتي يحمل الشارع اسمها. يتدفق إليها المؤمنون باستمرار حاملين شموعًا رقيقة عسلية اللون يضعونها أمام أيقونات القديسين خاشعين. معظم المصلين من النساء، تراقبن شعلات شمعاتهن آملات ألا تتموج كي لا يخيب رجاؤهن.

وفقًا للأسطورة، زار القديس أندراوس الجبل، ونصب عليه صليبًا حيث نشأت كييف في ما بعد. أما تاريخ الكنيسة الحالية فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورة الروسية يليزافيتا بتروفنا، التي أمرت عام 1744 بتشييدها على يد المهندس الشهير بارتولوميو فرانتشيسكو راستريللي. واللافت أن عالم الآثار الكييفي كوندراتي لوخفيتسكي أجرى عام 1832 حفرياته بالقرب من الكنيسة آملَا في العثور على صليب أندراوس الرسول، فوجد عمودًا خشبيًا قديمًا.


ناس الشارع

"منحدر أندريفسكي أفضل شوارع كييف... شديد الانحدار، متعرج ومرصوف بالحصى. لا منازل جديدة فيه سوى واحد. كلها من طبقة أو اثنتين. وها نحن أمام هذا المنزل رقم 13، وهو منزل من طبقتين بالكاد يُلحظ. لديه شرفة، سور، فناء، مع فجوة بين فناءين، حيث أخفى نيقولاي توربين كنوزه. كانت هناك شجرة ذات فروع، لكن لسبب ما قطعوها، أزعجت شخصًا ما فقصف عمرها". بهذه الكلمات أدخلنا الكاتب الروسي فيكتور بلاتونوفيتش نيكراسوف (1911-1987) إلى عالم الشارع. أما المنزل الذي كان يقف نيكراسوف أمامه، المعروف بـ"منزل آل توربين"، فهو الذي أنهى فيه الكاتب ميخائيل بولغاكوف روايته الأولى "الحرس الأبيض"، ومسرحية "أيام آل توربين". لم يحمل المنزل اسم عائلة صاحب الرواية، على الرغم من تحوله إلى متحف تذكاري خاص به، بل حمل اسم عائلة أبطال الرواية والمسرحية. ابتدع الكاتب شخصيات أعماله، ومنها تحفته "المعلم ومارغريتا"، المكتوبة لاحقًا، والتي خلدته.

خارج المبنى صعودًا، قرب تمثال بولغاكوف، يحتشد الزوار، يلتقطون أنفاسهم من التسلق الطويل حيث تمتد صفوف من المقاهي الصيفية، والمحال الصغيرة التي تبيع التذكاريات، وواجهات تعرض فيها تحف وأثريات وتطل على حقبة مهمّة من تاريخ الشارع، ترتبط بالمشاريع التجارية والثقافية في أوائل القرن التاسع عشر التي جذبت الكثيرين، وبني هذا الصرح المخصص لتوقيع العقود المتعلقة بالمعارض والحفلات الراقصة، بمشاركة شخصيات البارزة في ذلك العصر، إضافة إلى تنظيم التجمعات السرية والمجامع الماسونية في المكان. ناس الشارع كثر، لا تحصيهم العين. يمكن للناظر التمييز بسهولة بين أبناء المدينة الذين في عجلة دائمة من أمرهم يسابقون الوقت، وبين زوّارها الآتين من بلدان مختلفة، يتكئون على الجدران، يتفرجون على محتويات واجهات تاريخية، يحول الزجاج بينهم وبين المعروضات، ويرتاحون في المقاهي، يتفرج بعضهم على بعض.  

ننتقل إلى واجهة أخرى من واجهات الشارع، تطل على مخدع مليء بأشياء صغيرة من الحياة اليومية للنساء: منضدة زينة، طقم طلاء أظافر، منفجة تنورة، مشد، قميص نوم وما شابه. تُظهر ملابس النساء الداخلية والبطاقات البريدية المتداولة عادات القرن التاسع عشر، حين كان منحدر أندريفسكي معروفًا بشارع بيوت الدعارة. بقي الشارع سيء السمعة إلى أن حلّ فيه الكاتب الروحي والحاج إلى الديار المقدسة، أندريه مورافيوف، الذي زار بيروت وبعلبك سنة 1829 في طريقه إلى القدس، وكتب عن هذه الزيارة. حين حلّ الكاتب في كييف، اشترى منزلا في الشارع بعدما تأكد من طرد بيوت الدعارة منه، وعكف على تحسينه، وتدعيم المنحدر، وإصلاح كنيسة أندريفسكي، التي دفن فيها بعد وفاته.

المصدر:  كييف: جولة في شارع أندريفسكي.. يختصر تاريخها، عماد الدين رائف/ صحيفة "المدن"، 27 آذار/ مارس 2022.