الأوكراني أندريه كوكوتيوخا يفكك الجريمة المنظمة



في رواية "هناك... حيث يختفي البشر" للروائي الأوكراني أندريه كوكوتيوخا، التي ترجمها عن اللغة الأوكرانية مباشرة عماد الدين رائف، والصادرة عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"؛ نحن إزاء عنوان مكاني غرائبي بامتياز. هذا المكان الغرائبي يشكل شخصية محورية في متن الرواية، تتمحور حولها الشخصيات الأخرى.


المكان الغرائبي في "هناك... حيث يختفي البشر" هو منطقة شاذة في مقاطعة جيتومير الأوكرانية، وتوجد بالتحديد في قرية بيدليسني الواقعة بين قضاءي نارودنيتسك وأوفرتش. وهي منطقة جرى إخلاؤها من السكان، بعد انفجار مفاعل تشيرنوبيل عام 1986، تحدث فيها ظواهر خارقة للطبيعة، لا يعمل فيها الهاتف، لا تنعق الغربان، يغلّف الصمت المكان، وتعمل فيها الجاذبية والمجالات المغناطيسية والفضاء المتعدد الأبعاد في وقت واحد، مما يؤدي إلى ظهور عالم موازٍ للعالم الحقيقي، على حد إشارة المتن الروائي. وفي هذه المقاطعة، وذلك المكان بالتحديد، تجري أحداث خارقة، أو أُريد لها أن تكون كذلك، وتتم متابعتها والتحقيق فيها، فتترجح الرواية بين الخارق والبوليسي، حتى إذا ما شارفت النهاية، يتم وضع الأمور في نصابها الواقعي، ويتبين أن الخارق مصطنع، وأن البوليسي هو الأداة التي يتم بواسطتها تفكيك هذا الاصطناع.


شخصية محورية


يشكّل المكان الغرائبي في "هناك... حيث يختفي البشر" شخصية محورية، تتحرك من حولها الشخصيات الأخرى، في حركات متعاقبة، تتضافر فيها جهود الصحافي والضابط والمحقق والضحية، وتنجلي عن جلاء بعض الجرائم الغامضة، وتحديد المسؤولين عنها والمتورطين فيها. وفي هذه الحركات، تتعاقب الخيوط السردية وتتشابك وتتقاطع، ويظهر الكاتب براعة واضحة في التحكّم بها وتحريكها بما يحقق استراتيجيته الروائية، الآيلة إلى كشف الحقيقة ووضع الأمور في نصابها الطبيعي.


في روايته، يطرح كوكوتيوخا أسئلة الجريمة المنظمة، الفساد الأمني، تحقيق العدالة بطرق ملتوية، الخوارق، والعالم الموازي في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية؛ وفي هذا السياق، تشكّل واقعة قتل المصرفي هريهوري بيدوبني، في منزله الريفي، نقطة انطلاق مجموعة من الوقائع، تتفرّع منها وتتسلسل في ما بينها، تتخللها وقائع أخرى تشكّل نقاط تحوّل في مجرى الأحداث، وتؤدي إلى اكتشاف القتلة وجرائمهم المتمادية وإنزال العقاب بهم. هذه الوقائع تنخرط فيها مجموعة من المجرمين الذين لا يتورّعون عن استخدام الأساليب القذرة لتحقيق أهدافهم، من جهة، ومجموعة من المحققين والباحثين عن الحقيقة الذين يستخدمون أساليب مختلفة، مشروعة وغير مشروعة، للوصول إلى المجرمين وتحقيق العدالة، من جهة ثانية.




 عصابة محترفة


في المجموعة الأولى، نحن إزاء شخصيات روائية متحلّلة من أي ضوابط أخلاقية أو قانونية. يحرّكها المال، ولا تتورع، في سبيل الحصول عليه، عن ارتكاب الجرائم، الاقتصادية والبشرية، واختلاق البيئة الحاضنة لإخفاء جرائمها؛ فدنيس كوفاليفسكي، زعيم المجموعة، صاحب مخطّطات إجرامية وتاريخ حافل في الجرائم الاقتصادية، وله خبرة في عمل العصابات ونفوذ على أصحاب القرار. وأنطوان كونوفالوف حارسه الشخصي وشريكه في تنفيذ المهام القذرة. وبوزير كوليا ضابط الشرطة المتواطئ معه. وحفارو القبور الثلاثة أدواته التنفيذية. هؤلاء جميعهم يشكّلون عصابة غايتها الوحيدة الحصول على المال، ولكل منهم دوره المتناسب مع حجمه فيها. وهم، في سبيل بلوغ هذه الغاية، يجترحون وسائل لا تخطر على بال، من قبيل: تأليف جمعيات خيرية وهمية تصطاد ضحاياها من بين المصابين بأعطاب نفسية وتقوم بخطفهم وقتلهم وإخفاء جثثهم بعد تبرّعهم بما يملكون لتلك الجمعيات. إيهام الناس بوجود منطقة شاذة محظورة خطرة عليهم لصرف الأنظار عن المكان الذي يرتكبون فيه جرائمهم. ناهيك عن الوسائل التقليدية، من تهديد وخطف وقتل، مما تستخدمه سائر العصابات لبلوغ غاياتها.


في المجموعة الثانية، نحن إزاء شخصيات روائية مغايرة، يحرّكها الالتزام بالواجب وحماية الناس والبحث عن الحقيقة. وهي غالباً ما تستخدم أساليب مشروعة لتحقيق أهدافها، ولا تتورّع عن استخدام غير المشروعة، إذا ما اقتضى تحقيق الأهداف ذلك. وهي تشكّل فريق عملٍ واحد، يتوزّع أعضاؤه الأدوار في ما بينهم، ويقومون بها بشجاعة من دون تقدير المخاطر المترتبة على ذلك، ويدفعون الأثمان الباهظة جرّاء قيامهم بهذه الأدوار. وهي أدوار تتراوح بين التحقيق والتنفيذ والإعلام والشهادة، تبعاً لوظيفة كل منهم وموقعه في هذه العملية؛ فالمحققة كيرا أنطونوفنا، ذات الجمال المتواضع التي لا تملك هوايات خاصة ولا تهتم بالموضة ولا توجد لديها أعباء عائلية، تغرق نفسها في العمل تعويضاً ربما عمّا تفتقده، وتتولى التحقيق في جريمة قتل المصرفي هريهوري بيدوبني، وتتابع الجرائم المتفرعة عنها لتصل إلى القاتل. والنقيب سيرهي براجنيك، المحارب المخضرم في أفغانستان والمظلي السابق، يشاركها في عملها، وتُسنَد إليه المهام الصعبة، يقوم بعمله بإتقان، ولا يرضخ للضغوط، فيؤلفان معاً فريقاً ناجحاً، وتربط بينهما صداقة تشكّل قيمة مضافة إلى ما بينهما من زمالة. والصحافي فيكتور شامراي الذي يتابع الظواهر الخارقة ويكتب عنها ويقوم بتحقيقاته الميدانية بهدف جلاء غموضها، يتعرّض للخطف والتحقيق والتعذيب على أيدي العصابة ويتم تذكيره بوقائع مشابهة أخضعته لها العصابة نفسها، لكنه لا يخضع للترهيب، ويشكّل الرسم التشبيهي الذي أوحى به الدليل القاطع على تورط المشتبه فيهم في ارتكاب الجرائم المنسوبة إليهم. أما الفتاة تمارا توميلينا، عشيقة المصرفي الشاهدة على مقتله، التي تخترع كذبة اختفائها في المنطقة الشاذة المحظورة، وتتظاهر بفقدان الذاكرة لتحمي نفسها، في مكان تعجز الشرطة فيه عن حماية الناس، ما تلبث أن تدلي بمعلومات تساعد التحقيق.


أثمان باهظة


في غمرة الصراع بين المجموعتين، ثمة أثمان باهظة يتم دفعها؛ ففي المجموعة الأولى، يُقتل الرجل ذو الشعر الأحمر، ويُلقى القبض على زميليه اليافعين، ويُعتقل الضابط كوليا المتواطئ معهم، وتُطلق النار على زعيم المجموعة وحارسه الشخصي. وفي المجموعة الثانية، يُخطَف الصحافي شامراي ويُعذّب، وتُهدّد الفتاة تمارا، وتُطلق النار على النقيب براجنيك ويُفصل من العمل، وتُستبعد المحققة أنطونوفنا عن متابعة التحقيق. والمفارق أن ذلك يحدث عند اقتراب التحقيق من إثبات هوية القتلة وتحديد المسؤوليات، ما يشي بالنفوذ الكبير الذي تمتلكه المافيا على قادة الشرطة المحليين. وفي ضوء عجز الشرطة المحلية عن حماية الناس، يقوم النقيب سيرهي براجنيك باقتفاء أثر زعيم العصابة وحارسه ويطلق عليهما النار بسلاح مصادر من أفرادها، فيبقى بمنأى عن المساءلة. وهكذا، تقول الرواية إنه عندما لا يتم تطبيق القانون العام لحماية الناس يلجأ هؤلاء إلى تطبيق قوانينهم الخاصة.


على مدى أربعٍ وسبعين وحدة سردية متعاقبة، يتراوح طول الواحدة منها بين بضعة أسطر، في الحد الأدنى، وثلاث عشرة صفحة، في الحد الأقصى، يضع كوكوتيوخا روايته ذات الخيوط السردية المتعددة بتعدد شخصياتها الرئيسية، ويحرك هذه الخيوط المتفاوتة الطول بمهارة وحذق بما يخدم استراتيجيته الروائية البوليسية. ولكل خيط دوره في شبكة الرواية، فليس ثمة خيوط زائدة عن الحاجة أو مجانية فيها. على أن العلاقة بين الوحدات السردية المتعاقبة نصياً هي علاقة تسلسلية غالباً، وكثيراً ما تنتهي الوحدة السابقة بالإشارة إلى واقعة معيّنة يتم تفصيلها في الوحدة اللاحقة والبناء عليها. وبذلك، تتبع الأحداث المسرودة مساراً خطياً في معظم الأحيان، يوافق مسارها في العالم الواقعي. غير أن الكاتب يُخِلّ بهذه الخطية في الوحدات الأخيرة من الرواية، في إطار تفكيك لغز الجرائم المرتكبة، فيورد أحداثاً تنتمي إلى البدايات في النهايات النصية، ويفارق بين ترتيب الوقائع في العالم المرجعي وترتيبها النصي. وهو أمر تقتضيه أصول الفن الروائي المفارقة للعالم الواقعي. فالرواية ليست صورة طبق الأصل للواقع لا سيما في ترتيب أحداثها. وفي السياق نفسه، لا بد من الإشارة إلى أن السرد في الرواية لا يقتصر على المساحات المستقلة التي يشغلها بل قد يتغلغل في الحوار نفسه، على شكل جمل اعتراضية ترصد حركات الشخصية المحاورة أو تصف مكان الحوار، ما يضفي على الحوار حركية معيّنة، ويقترب به من السيناريو المسرحي في بعض المقاطع.


هذا التوصيف الذي يعكس حرفية الكاتب لا يحجب التضارب في بعض الوقائع التفصيلية بين مطرح وآخر في النص، فالسيارة التي استقلّها الصحافي إلى المنطقة المحظورة تُنسَب إلى مساعده في القسم الأول من الرواية وتُنسَب إليه شخصياًّ في القسم الثاني، على سبيل الذكر لا الحصر. ولا يحجب الأخطاء اللغوية التي شابت الترجمة على رشاقتها. وعلى رغم ذلك، "هناك... حيث يختفي البشر" رواية تستحق القراءة، ولن يعود قارئها من الغنيمة بالإياب.


المصدر:  الأوكراني أندريه كوكوتيوخا يفكك الجريمة المنظمة، اندبندنت العربية، سلمان زين الدين، 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022.