شاب تزين صورته ورقة العملة الأوكرانية من فئة خمسمئة هريفنا، ترك إرثًا معرفيًا عظيمًا في الأمة السلافية. من كان غريغوري (هريهوري) سافيتش سكوفورودا (1722-1794)؟ كان شاعراً، لاهوتياً، مدرساً، ملحناً، موسيقياً، مغنياً، رحالة... بكلمة واحدة كان حكيمًا أوروبيًا أطلق عليه اسم "سقراط الروسي". ولد قبل قرن من ولادة عظيم آخر من دياره هو نيقولاي غوغول (ميكولا هوهول) في منطقة بولتافا الأوكرانية نفسها، وكما هي نصوص غوغول عابرة للأجيال، لا تزال مقولات سكوفورودا فتيّة اليوم بعد ثلاثة قرون على ولادته.
كان مرحًا منفتحًا، سريع الغضب (بما يتوافق تمامًا مع اسم عائلته الذي يوحي بالحرارة "المقلاة"). يُرسم عادة بلا لحية وبأنف بارز وحقيبة على كتفه، وعصا بيده من ناحية، ومن ناحية أخرى يمسك بالكتاب المقدس. تذكره معاصروه بأنه كان نحيل الجسم، صغير الحجم، يسير على طول الدروب الترابية، يغني شيئًا ما أو يحدث نفسه وهو غارق في التفكير. ليدوّن ما يفكر فيه، كان يسارع إلى أقرب منزل ويطلب من المالك المذهول بوروده قلمًا وحبرًا وورقة. كان من المستحيل رفض طلبه وهو يتحدث بسحر البيان وبلهجة أرستقراطية. يحلّ في ضيافة هذا المالك أو ذاك، يعتزل للكتابة لأيام وليال. كان مضيفوه مفتونين بالرحالة الغامض، بعدما ذاع صيته عن طريقة تفكيره غير العادية، وكانوا يتطلعون إلى خروجه من العزلة ليحادثهم.
فلسفة الحياة
كانت نصوصه مزيجًا متنوعًا من اللغات الكنيسة السلافية واليونانية والأوكرانية والروسية، بالإضافة إلى تزيين العبارات باللاتينية. بعد أن يترك القلم، كان يظهر في ملابس السفر ويأسر الجميع بالمحادثات حتى حلول الليل. يتجمع الناس منصتين إلى كلماته، وكان يبدو في غاية السعادة.
يمكن أن يبدأ حديثه بأي أمر راهن قد يبدو تافهًا للوهلة الأولى، لكن لا يمكن أن يكون أي شيء تافه في عالم الله بالنسبة لسكوفورودا، إذ تنتقل المحادثة سريعًا إلى الأفكار حول معنى الوجود، وحول الحب والموت، وحول كيفية تحقق السعادة. "عندما تكون روح المرء مبتهجة، تغدو الأفكار هادئة، والقلب سليمًا، ثم يغدو كل شيء مشرقًا وسعيدًا ومبهجًا...". ثم يستكمل الحديث بالموسيقى، فقد كان في شبابه مغنيًا في بلاط الإمبراطورة يليزافيتا، حيث ألّف الأغاني ونظم الحفلات الموسيقية. كان يعزف على الفلوت والكمان والقيثارة والباندورا.
لم يمكث في أي مكان لمدة طويلة. في كثير من الأحيان، أثناء توديعه الأصدقاء، كان يهديهم مخطوطاته كتذكار أو ببساطة كان ينساها على الطاولة. جذبه السفر سيرًا على قدميه منذ شبابه، لم يجُب أنحاء أوكرانيا فحسب، بل جاب أيضًا مقاطعات كورسك وأوريول وفورونيج، وزار سان بطرسبورغ وموسكو وتاغانروغ وروستوف على الدون، وأحب بيلغورود وضواحيها. يتذكر سكوفورودا: "اعتزلت في الغابات والحقول والحدائق والقرى والدساكر والمناحل بالقرب من خاركوف"، و"علّمت نفسي الفضيلة وتعلّمت من الكتاب المقدس...". وللحديث مع شخص متعلّم مثير للاهتمام، كان مستعدًا لقطع أي مسافة. زار فيينا، وبودابست، وبراتيسلافا، ولوزان، وحلّ في العديد من مدن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ووجد محاورين في كل مكان. اعترف وهو في سن الشيخوخة: "ما زلت أتجول. أعيش كأنني لا أملك شيئًا، لكنني أملك كل شيء. كل بلد هو وطن بالنسبة إلي...".
كان مأواه الأخير في مزرعة إيفانوفكا بالقرب من خاركوف. عاد إلى هناك على عجل من كورسك تاركًا أصدقاءه، حفر لنفسه قبرًا على تل بالقرب من بستان وبيدر. ثم لبس قميصًا نظيفًا ومات بهدوء، وأمر أن تنقش عبارة على شاهد قبره: "أمسك بي العالم لكنني أفلتُّ منه".
هي الحرب إذن!
في العام 1922، غيّرت السطات السوفياتية اسم المزرعة إلى "سكوفوروردينوفكا" تيمّنًا به، وافتتحت متحفًا تذكاريًا له ضمّ أغراضه ومنها كمنجته. وفي الحديقة، في جوف شجرة بلوط قديمة معمّرة كتب أطروحاته وقصائده. في العام 1959، عُرض فيلم "غريغوري سكوفورودا" على الشاشة السوفياتية الكبيرة. وفي العام 1972، احتفل الاتحاد السوفياتي بالذكرى الـ250 لفيلسوف روسيا الأول على نطاق الاتحاد، ونُشرت أعماله في مجلّدين، وصدر طابع بريدي حمل صورته في موسكو... أما اليوم، فلا شيء يذكّر بالذكرى الـ300 لولادة سكوفورودا في الاتحاد الروسي. تخلّت روسيا الحديثة عن سقراط روسيا القيصرية المبجل في الحقبة السوفياتية. فاليوم حرب طاحنة تدور رحاها في تلك البلاد التي جابها سكوفورودا سيراً على قدميه وأحبها. وقد نالت من متحفه نيران القصف في 6 أيار/مايو 2022 فأصابه صاروخ إصابة مباشرة دمّره، حيث فقد العديد من القطع الأثرية التي لم يعد من الممكن استعادتها. أما تمثال الفيلسوف الذي أبدعه الفنان إيفان كافاليريدزي العام 1972، فقد نجا بأعجوبة، وهو أمرٌ له رمزيته، إذ لا تستطيع الحرب أن تدمّر الكلمة.
الترجمة العربية
لم يُقدّر للقارئ العربي أن يطلع على إرث سكوفورودا المعرفي من قبل. وقد رأيتُ أن أقدّم هذا الفيلسوف من خلال نصوصه الأدبية، شعرًا ونثرًا، التي يمكن للقارئ أن يلمس فيها معالم منهجه الفلسفي من دون الغوص في الأطروحات والحوارات والمحادثات والمقولات التي تضمنت أسس هذا المذهب، فكان كتاب "غريغوري سكوفورودا - نصوص مختارة"، في طبعة يوبيلية لمناسبة 300 عامًا على ولادته (يصدر قريبًا عن دار المصور العربي، بتقديم من السفير الأوكراني في لبنان البروفيسور إيهور أوستاش).
قسّمتُ النصوص التي انتقيتها للترجمة العربية إلى ثلاثة أقسام. الأول، مجموعة شعرية بعنوان "حديقة الأغاني الإلهية النامية من بذور الأسفار المقدسة" وهي عبارة عن ثلاثين قصيدة نظمها سكوفورودا في خلال ثلاثة عقود من الزمن، جاءت نصوصها مختلفة الأوزان والأحجام. الثاني، مجموعة نثرية بعنوان "حكايات خاركوفيّة"، كتبها سكوفورودا على خطى إيسوب الحكيم وطريقته، لكنّ العبر التي أضافها إليها كانت طويلة أحيانًا ومعتمدة بالمجمل على الكتاب المقدس وأمثاله. الثالث، سيرة حياة غريغوري سكوفورودا بقلم تلميذه ميخائيل كوفالينسكي، والتي اختصرتها فحذفت منها بعض الحوارات الفلسفية العميقة، وأشرت إلى مواقع الاختصار فيها.
شكّلت لغة النصوص الصعوبة الأبرز التي كان عليّ تذليلها، معتمدًا على القاموس الخاص الذي عملت عليه أثناء العمل على ترجمة نصوص فاسيل بارسكي التي تعود إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر، وترجماتي المختلفة من الروسية والأوكرانية القديمتين، والسلافية الكنسية. وقد آثرت التعامل مع النصوص الأصلية كما دوّنها سكوفورودا نثرًا ونظمها شعرًا، ثم مقارنة ترجمتي العربية لها مع الترجمة الأوكرانية، كي لا أفوّت مما قصده الفيلسوف شيئًا، وآمل أن أكون وُفّقت إلى ذلك.
كان سكوفورودا كثير الاقتباس من الكتاب المقدس، وكأنه يتحدث مع نفسه كـ"عاشق للكتاب المقدس"، أو مع قارئ ملمّ يوازيه في المعرفة، حيث لم يجد حاجة للإشارة إلى أن هذه العبارة أو تلك مقتبسة من هذا السّفر أو ذاك. وقد استخدم ترجمة سلافية قديمة للأسفار المقدسة لم أقف عليها. واعتمد في اقتباساته الحرّة أحيانًا على التوليف بين الآيات، ولم تتوافق في ذلك مع الترجمات العربية أو الروسية أو الأوكرانية الحديثة للكتاب المقدس. ووجدت أن الأمانة تقتضي ضبط آيات الكتاب المقدس من الترجمة العربية المشتركة مع اللغات الأصلية، بعهديه القديم والجديد، ومن الكتب اليونانية من الترجمة السبعينية (كان الكاتب كثير الاقتباس منها، لاسيما من سفر يشوع ابن سيراخ)، حتى لو لم يتطابق المعنى مع ما ذهب إليه.
المصدر: سكوفورودا الحكيم: شاب ولد قبل ثلاثة قرون، جريدة المدن، 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.