فصل من كتاب إيرين روزدوبودكو. الزرّ (دار "نورا دروك"، كييف)
الكتاب الأول
آخر أيام آب/ أغسطس 2005
... لا أذكر متى كانت آخر مرّة عدت فيها إلى المنزل بدون أن أكون "ثملاً" قليلاً. وربما ليس قليلاً... ولكن منذ الأمس، تولّد لديّ شعور وكأن "طوربيدًا" زُرع تحت لوح كتفي وأنيّ سأموت بمجرد النظر إلى كأس من الفودكا أو الكونياك. ولم يكن لدي أي شيء على الإطلاق يهدّئ من روعي، وعليّ بطريقة ما الوصول إلى نهاية يوم العمل. في الوقت نفسه أردتُ أن يستمر هذا اليوم إلى الأبد. كنت أخشى العودة إلى المنزل. أخشى الجلوس أمام الكمبيوتر.
لذلك، بعد محاضرتين قصيرتين في معهد التصوير السينمائي، عدت إلى المكتب. لم يكن لدي أي شيء على الإطلاق لأفعله هناك، يمكنني العمل في المنزل وكتابة نصوص لا نهاية لها للإعلانات التجارية، لكن، كما قلت، كنت أخشى العودة إلى المنزل. لذلك، جلست في مكتبي بلا عمل، وألقيت قدميّ على الطاولة أمامي، وكنت أجبر مديرة المكتب تاتيانا نيقولاييفنا بين الحين والآخر على صنع فناجين من القهوة القوية لي. نظرت من النافذة. وكان نظري شديد التركيز لدرجة أنني لاحظت أصغر الأخاديد على لحاء شجرة تنتصب على الجانب الآخر من الشارع. لم أرفع عيني عن تلك الأخاديد المليئة بأنسجة العنكبوت الرمادية، وقد ذكرتني بالتجاعيد على وجه رجل عجوز.
كان الصيف يقترب من نهايته والسنة تتجه إلى نهايتها. لا أعرف كيف يفكر الآخرون، لكن بالنسبة إليّ ينتهي العام دائمًا في آخر يوم من شهر آب/ أغسطس. ربما لأن كل شيء في حياتي بدأ في الخريف...
حاولت ألّا أفكر في أي شيء. لكن أفكاري قادتني إلى المنزل مئات المرات، حيث قمت بالعديد من الأمور المعتادة: فتحت الباب، خلعت سترتي، جلست أمام الكمبيوتر على كرسي أسود عميق وضغطت على "الفأرة".
لماذا أخشى فعل ذلك فعلاً؟ يجب أن أنزل ساقيّ من على الطاولة الآن، أن آخذ حقيبتي وأقفز نحو الشارع، أن أجلس خلف عجلة القيادة وفي غضون عشر دقائق، سأفتح باب شقتي؟ ما هو نوع الأثقال التي تقيّد قدميّ؟
أدركت أن هذه الأثقال تجسد الخوف من عدم وجود أي شيء على الإطلاق على الشاشة. لا شيء.
وبنسبة من الخوف لا تقل عن تلك، فكرت في أن مظروفًا أصفر صغيرًا قد يظهر في زاوية الشاشة. ولم أعلم أيهما أفضل: "اللا شيء" أو ذلك المغلف...
نحو الساعة الثامنة، شرعت تاتيانا نيقولاييفنا بالسعال بخفوت خارج الباب. ثم فتحته قليلاً، وسألت:
- المزيد من القهوة؟
أدركت أن الوقت قد حان للمغادرة. نزلت إلى الشارع وللمرة الأولى لم أنظر نحو مطعمي المفضل "سوك"، على الرغم من أنه كان بإمكاني... تملكتني الرغبة في ذلك فجأة، شعرت بالحمى وبالكاد استطعت أن أسرع الخطى نحو مدخل منزلي. ثم انتابني الخوف من أن أعلق في المصعد وأن أقضي عدة ساعات مرهقًا فيه وأنا أتساءل عمّا إذا كان سنتظرني ذلك المظروف أم لا.
الحمد لله، لم يحدث ذلك. هرعت إلى الشقّة، وخلعت سترتي أثناء حركتي، وألقيت حذائي وربطة عنق في اتجاهين مختلفين. هويت على الكرسي الأسود. بدوت أشعث الشعر إلى حد ما. تساءلت ماذا كان ليقول طلابي إن رأوني على هذه الحال وقد اعتادوا على رؤيتي بكامل هندامي.
أخذت نفسًا...
... آنذاك كان سبتمبر أيضًا، وكان هناك بطيخ على الشرفة، أما الآن فلا يوجد سوى طبقة سميكة من غبار الشارع...
نقرت على أحد المفتاح فومض المظروف الأصفر في الزاوية. كان كل شيء كما تخيلته. لم أصدق عينيّ. حقًا؟ لقد نقرت بالفأرة مرة أخرى. أغلقت عيني. فتحتهما.
"توفيت في 25 سبتمبر 1997...". ظهر السطر الأول من النصّ على خلفية زرقاء للشاشة.
أغلقت عينيّ مرة اخرى. غمرني البرد ولفّني الظلام...
القسم الأول
دينيس
1
في نهاية آب/ أغسطس 1977 ... حين بلغت الثامنة عشرة من عمري حلمت بالمجد، وكنت أعلم أنه سيأتي. لم يتعلق الأمر بتسلق مؤقت لخشبة مسرح في المساحة المحدودة، حيث كنت أعيش آنذاك. وكذلك لم يتعلق بتصفيق الجمهور الذي سينساني في اليوم التالي. لا. شعرت أن لدي قدرًا، لغزًا لم أحله بعد. في تلك الأثناء، كانت يظهر في داخلي شيء ما، يشبه حبة تتضخم في قطن مبلل، كتلك التجربة التي قمنا بها في المدرسة في حصّة علم الأحياء. نبتت الفاصولياء على حافة نافذة كل تلميذ من تلامذة الفصل الخمسة والثلاثين، وبعد أسبوعين أحضروا النتيجة إلى المدرسة. أتذكر جيدًا أن هروبي كان أكبر من هروب الآخرين. لقد مر وقت طويل على الفصل السادس. ولكن بعد هذه التجارب أدركت ما الذي يتطور داخل نفسي وكيف يتطور. وكنت انتظر بصبر. بصبر شديد لدرجة أنني حاولت عدم لفت الانتباه إلى نفسي، ولم أكن بحاجة إلى ذلك الانتباه. وداعًا. تخرجت من المدرسة، ودخلت بسهولة إلى كلية السينما، قسم كتابة السيناريو (تبين أن نص امتحاني أفضل من مؤلفات المتقدمين من ذوي الخبرة وكبار السن، وقد حوفظ عليه لفترة طويلة في القسم كمثال على النجاح). بعدما علمت بالنتيجة، سافرت لأستريح قليلاً في الجبال، توجهت إلى موقع مخيم عند سفح جبال الكاربات. في واقع الأمر، كان موقع مخيم "سينمائي"، زاره جميع زملائي المستقبليين تقريبًا، وكانت الإعلانات عن الرحلات الطالبية المشوقة تعلق في بهو المعهد آنذاك. لم نكن قد تعارفنا بشكل جيد بعد، لكننا اتحدنا بروح مشتركة أثناء التقدم إلى الامتحانات الأخيرة، هناك احتشد الجميع معًا قرب أبواب الفصول التي تجري فيها الامتحانات، واستقبلوا كل بصخب كل من خرج رافعًا راية النجاح.
كل ذلك كان قد بات وراءنا. وصلنا إلى موقع المخيم ببطء من دون أن ننبس ببنت شفة، وابتهجنا بشدة لكل وجه مألوف. حللنا في أكواخ خشبية صغيرة، وبدأنا على الفور في دراسة المنطقة، لمعرفة مكان وجود غرفة الطعام والمسبح والسينما والمتجر العام الأقرب، حيث يمكننا شراء "بورتوين 777" الرخيص.
شعرنا بأننا بالغون وذوو خبرة. حاولنا التواصل ببساطة قدر الإمكان والتخفف من "أصنامنا". خاطب بعضنا البعض وفق الطريقة "الغربية"، لذلك عمدوني على الفور باسم "دان". وحمل جاري في الغرفة اسم "ماكس".
ركض دان وماكس - شابان قاسيان من عباقرة المستقبل - بسرعة إلى المتجر العام وخزنا عدة زجاجات من "الحبر" القوي. شربنا سواد زجاجات النبيذ و... منذ كنا أطفالًا من المدرسة لم نشرب ما هو أغلى ثمنًا من "بورتوين". بصراحة، سرعان ما ندمت على مجيئي إلى هناك...
كانت الجبال زرقاء من بعيد وبدت متلألئة ومغطاة بالحرير الأبيض الباهت لضباب المساء. واضطررت للجلوس على سرير صلب، أحتسي "البورتوين" واستمع إلى ثرثرة أصدقائي. عندما بدأ الدخان يعمينا (بطبيعة الحال، لم يعد أحد يرى شيئًا)، بدأنا في الخروج لالتقاط الأنفاس من الهواء. تمكنت أخيرًا من الهروب من الغرفة المليئة بالدخان والسير بهدوء عبر أراضي المخيم.
كان مكانًا هادئًا جدًا. أو بدا كذلك في نهاية الصيف. ظهرت أضواء خافتة من خلف ستائر الأكواخ، في بعض الأماكن على الشرفات جلس المصطافون يتسامرون، وجاء صوت موسيقى فيلم من السينما "الخضراء" في الهواء الطلق، يبدو أنه كان فيلم "يسينيا" الموسيقي... ولكن بشكل عام كانت السمتان العامتان للمكان الفوضى والخراب. خلف السياج الأبيض القديم المبني على الطراز الباروكي الزائف، كانت الغابة السوداء المكسوة بالفرو تصطادني بإغرائها، أتتني منها موجة قوية من النضارة المصحوبة بالقلق وغمرتني. حلّ الظلام بالفعل.
كانت المنحوتات السخيفة لفتيات التجديف ولاعبي كمال الأجسام تلمع باللون الأبيض على طول الممرات وتبدو مثل أشباح. معظم المقاعد الخشبية بلا أخشاب وجميع الفوانيس "عمياء". وصلت إلى نهاية الزقاق، جلست على مقعد، أخرجت سجائري ولاحظ على الفور كيف ومض ضوء أحمر عبر الشارع...
لو لم أكن مخمورًا، لولا حالة النشوة المتلألئة بسبب دخولي مرحلة جديدة من الحياة، النشوة التي تجول في داخلي مثل النبيذ، لما حدث ذلك الشيء الذي سيطلق سلسلة من الأحداث بعده، وسيغير كل حياتي.
كنت في حالة سكر. رأيت شيئًا... صورة ظلية يحددها ضوء القمر، بدت في الظلام الدامس مخططًا فارغًا وغير متجسد لامرأة تدخن سيجارة ذات مبسم طويل. كانت تقرّب ببطء ضوءًا أحمر من شفتيها غير المرئيتين، تعبُّ منها، وبعد لحظة يملأ الدخان الفضي كيانها الشفاف بالكامل وكأنّها تشكّل جسمها من داخلها. وبعد ذلك، مع آخر نفثة من الدخان، ذاب هذا الجسد ببطء في الظلام.
أي مشهد شيطاني هذا!
أجهدت عينيّ ولوحت بكفّ يدي بشكل هزلي أمام أنفي، متحققًا مما أرى.
- هل أخفتُك؟
أتى صوتها ذا بحّة، لكنه شديد الإثارة لدرجة أن القشعريرة سرت في جميع أنحاء جسدي، كما لو أنها قالت شيئًا فاحشًا (حتى بعد ذلك لم أستطع التعود على صوتها. بغض النظر عما كانت تتحدث، سواء أعن الطقس، أو الكتب والأفلام والطعام، بدا كل شيء تقوله مثيرًا، مثل الوحي).
- لا، لا بأس ... - تمتمتُ.
الليل الرطب وقمم الجبال، السواد البعيد وهذا الضوء الأحمر الذي يغمز في الظلام، والهواء الغني والطازج.. كل ذلك أيقظني من آثار الخمرة. حاولت أن أتفحص بنظري المرأة الجالسة في الجهة المقابلة. لكن بلا فائدة. ربما، حتى ذلك الحين كانت عيناي "ضبابيتان" تمامًا. يحدث هذا، على سبيل المثال، مع الأمهات اللواتي لا يستطعن تقدير جمال أطفالهن بموضوعية أو مع فنان يبدو له أن لوحته الأخيرة كانت عبقرية.
- هل تعيشين أيضًا في هذا النزل؟
ألم أستطع التفكير في شيء أكثر حماقة! كانت العبارة أشبه بسؤال مسافر قربي بعد الإقلاع: "أتسافر أيضًا في هذه الطائرة؟" لكنني أردت حقًا سماع صوتها مرة أخرى.
- أيُعجبُكِ المكان هنا؟ - تابعتُ.
توهّج الضوء الأحمر (امتصت مبسم سيجارتها) ثم ذوى (خفضت يدها).
- أتعرفُ أيّ مكان يعجبني؟ - سمعت صوتها (ارتجف بدني.. سرت فيه قشعريرة)، ثم بعد وقفة طويلة نوعا ما قالت: - هناك…
توهج الضوء مرة أخرى، واتجه نحو الغابة.
- لم أذهب إلى هناك بعدُ ...- قلتُ - لقد وصلت اليوم للتوّ...
- غريب أنت! - طار الضوء بسرعة في اتجاه الغابة واختفى - لنذهب! توجد فتحة في السياج هنا.
من حفيف ملابسها، فهمت أنها نهضت وهي تخطو في اتجاهي.
- أعطني يدك!
مددت يدي في الظلام فاصطدمت بكفّ بارد، فسرت من جديد تلك القشعريرة في جسدي. كانت يدها حيوية وليست ناعمة.
- آه، أنت ثمل تمامًا! - ضحكت.
وقفت محاولًا المحافظة على توازني. كنا بالطول نفسه تقريبًا. تمكنت من تحديد بعض الملامح في الظلام: نحيلة، داكنة، ربما سوداء، لديها شال ملفوف حول كتفيها... ولا شيء آخر. شممت عطرها. آنذاك ما كنت أعرف رائحة العطور الباهظة الثمن، وكانت تُباع في "تحت الطاولة"، وفيما استخدمت صديقاتي في الغالب عطر "شهرزاد" الخانق أو "زنبق الوادي" المركّز. طفت فوقي موجة من ذاك العطر لاذعة ومسكرة. ضغطتُ أسناني وكذلك على يدها بقوة.
... أطعتها، مشينا بسرعة نحو ركن بعيد من السياج. توجد هناك فتحة سوداء كبيرة فيه، لم ألاحظها على الفور. من دون أن أترك يدها، خطوت خلفها، ثنيت رأسي بحدة، ووجدنا نفسينا على الجانب الآخر من موقع المخيم، على سهل واسع مليء بالأعشاب البرية. مشينا على عشب يصل إلى مستوى الركبة. حاولت مرة أخرى أن أتفحصّها، كانت تقودني بإصرار من يدي، مثل طفل صغير. لفها شال أسود من رأسها إلى أخمص قدميها، ولم أتمكن من تحديد طول شعرها، اندمج شعرها مع الشال، وكان على ما يبدو طويلا وباللون الأسود نفسه. لم تلتفت نحوي أبدًا، يبدو أنها كانت غير مبالية تمامًا بمن كانت تسحب معها.
حاولت ألا أسقط أو أتخلف عن مشيتها، لذلك كنت أنظر في معظم الأحيان نحو قدميّ، وذكّرتني النباتات البرية بموجات البحر العطرة القوية. موجات تسحبني إلى عمق لا يمكنني الخروج منه.
كان رأسي يدور. ليل، هلال رقيق فوق الغيوم، وجبال، وتلك القشعريرة، وحالة السكر، وهذه الغريبة... كل شيء بدا وكأنه نوع من الخيال والتهيؤات. أحببت هذا النوع من المغامرة. ولم يكن لدي أي فكرة عمّا يمكن أن يحدث بعد ذلك. ربما جنس مجنون على حافة الغابة؟ أي نوع من النساء هذه؟ لماذا، وإلى أين تقودني؟ كم عمرها وكيف تبدو؟ ماذا تريد؟
وصلنا إلى منحدر جبلي مغطى بأشجار تنتصب فوق الأرض مثل أعمدة عند مدخل معبد وثني. ابتلعها الظلام مرة أخرى، وانبثقت رائحة كثيفة من الغابة. قادتني المرأة إلى خلف الصف الأول من أشجار الصنوبر الكبيرة، حيث تبدأ الغابة، وأسندت ظهرها إلى جذع إحدى الأشجار.
- عظيم، أليس كذلك؟
بالكاد استطعت التقاط أنفاسي. نظرت حولي. كان المكان رائعًا بالفعل! كما لو أننا وصلنا إلى داخل كائن حيّ كبير، سمكة سحرية غرائبية. شكلت الأشجار عضلاتها المتوترة وتيجانها خياشيم تتنفس منها، وفي مكان ما بالداخل، في الأعماق، كان قلبها ينبض. حتى أنني سمعت ذلك الصوت الإيقاعي المزعج.
- المكان حيّ. هل تشعر به؟ في النهار يكون الأمر مختلف تمامًا...
حركتُ الولاعة (القداحة)، رأيت للحظة نصف دائرة من خدها وبريق بؤبؤ عينها الأسود. ثم تراقص ضوء أحمر أمامي مرة أخرى.
- ما اسمك؟ - سألتُها وأنا مشغول بالتفكير كيف يمكن أن تنتهي هذه المغامرة المذهلة.
- ما المهمّ في ذلك؟ خاصة الآن…
تقوس الضوء واختفى. شعرت بها من جديد تأخذني من يدي وتسحبني إلى مكان ما. مشينا بسرعة كبيرة، كما لو كان هناك من يطاردنا. سمعت صوتها ذا البحّة. في مرحلة ما، شعرت بعدم الارتياح. اصطدم وجهي بفروع الأشجار التي لم يكن لدي قدرة على تجنبها.
أخيرًا صعدنا إلى أعلى وتوقفنا. حدث كل شيء مرة أخرى. اندمجت المرأة بجذع شجرة وتوهج الضوء.
لكن هذه المرة نظرت إلى الأسفل بدهشة. لقد خرجنا من فم الكائن الوحش، من بعيد، ارتسمت أضواء خافتة لقرية قريبة، عبر الشريط الذهبي للنهر. بدت تيجان الأشجار الكثيفة تحتنا تتزاحم مشكلة سحابة رعدية، يمكن للمرء أن يمشي فوقها كما لو أنها أرض جافة. ثبتُ إلى حواسي، تنفستُ بشراهة مستمتعًا بطعم الهواء الرائع، الذي لا يمكنني إلا الآن أن أقدره. إلى جانب هذا الهواء، غمرتني الفرحة. إنه لأمر جيد جدًا أنني خرجت من تلك الغرفة المزدحمة، وعثرت على هذه المرأة الرائعة ومنحتني هذه النزهة الجميلة. أدركت أن أسبوعين من الراحة سيكونان عظيمين هنا. نظرت حولي وأردت أن أشكرها...
اختفى الضوء المتوهج. توجهت إلى الشجرة حيث كانت تقف منذ لحظة، لمست الشجرة بيدي. لا أحد!
- إيه – قلتُ بهدوء - أين أنت؟
بدا صوتي غريباً في الظلام. في مكان قريب، خفق طائر ليلي بجناحيه. بحثت حول كل الأشجار والشجيرات. توهمتُ أنها نشرت شالها الأسود في مكان ما، واستلقت منتظرة أن أعثر عليها في أسرع وقت ممكن. ثم غضبتُ. يا لها من فكرة غبية. تساءلتُ إن كان بإمكاني أن أتلمس طريق العودة. في وقت لاحق، تذكرت أمرًا غير محبّب، وهو أن هذه الأراضي تعجّ بالأساطير حول الحوريات وأرواح الغاب والمياه والمستذئبين والسحرة.
لم يكن من المريح أن أعود وحيدًا. ظللت أنصتُ لعل صوت خطواتها سيسمع في مكان قريب. لكن الغابة كانت تتنفس بعمق فقط، وقد تشبثت بي بأصابعها المعقوفة حتى أنني وقعت مرتين.
عند خروجي إلى السهل، أخذت نفَسًا ونظرت نحو الغابة. بدا لي أن ضوء سيجارتها الأحمر كان يتنفس مرة أخرى فوق. كان يراقبني مثل عين. وربما كان يضحك...
...
هوامش
...
"بورتوين 777" أو "تري سيميوركي": ماركة نبيذ سوفياتي مقوّى بخس الثمن.
يسينيا: ميلودراما غنائية مكسيكية (1971) للمخرج ألفريدو كريفنا، من بطولة جاكلين أنديري، حققت مشاهدات قياسية (91 مليون مشاهد) بعد دبلجتها وعرضها في صالات السينما في مدن الاتحاد السوفياتي (1975).
الباروك: طراز معماري انتشر في أوروبا في القرنين الـ 16 والـ 17، تستخدم فيه الأقواس والمنحنيات والأعمدة، ويزين بالمنحوتات والزخرفات. ارتبط بالكنيسة الرومية الكاثوليكية.
الحوريات وأرواح الغاب والمياه والمستذئبون: من الكائنات الأسطورية ذات القوى السحرية التي تعيش في الغابات القديمة وفق الميثالوجيا السلافية الشرقية. روح الغاب (ليشّي أو ليسَفوي)، روح الماء (فودي أو فودافوي)، الحورية (روسالكا)، المتحول أو المستذئب (أوبرتنيك)... تظهر غالبًا في الأدب الفلكلوري الشعبي، وقد جمعتها كبرى شاعرات أوكرانيا ليسيا أوكراينكا (1871-1913) في مسرحيتها الدرامية الغنائية "أغنية الغابة" (1911).
الترجمة من الأوكرانية والهوامش: عماد الدين رائف