للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الدبلوماسية الأوكرانية اللبنانية، وتاريخ أوكرانيا المستقلة، تصدر ترجمة نصوص مختارة للمفكر والكاتب الأوكراني البارز غريغوري سكوفورودا، عن دار النشر اللبنانية "المصوّر العربي". مُطلق هذا الحدث التاريخي في الدبلوماسية الثقافية الأوكرانية هو إيهور أوستاش، السفير المفوض فوق العادة لأوكرانيا في لبنان (من 2016 إلى 2022). لم يتمكن أحد قبل اليوم من القيام بذلك، ومردّ ذلك من جهة إلى نقص الموارد، ومن جهة أخرى إلى رهبة المترجمين من شخصية سكوفورودا وإبداعاته، وخاصة من لغته الخاصّة التي صاغ بها النصوص.
لكن الدبلوماسية الثقافية الهادفة والفعالة لإيهور أوستاش، على الأقل خلال السنوات الست الماضية في لبنان، أظهرت أنه حتى في الأوقات الصعبة، يجب على المرء أن يخلق منتجًا ثقافيًا ويعمّمه قدر الإمكان. فمن خلال الثقافة والفن يمكن الوصول إلى الآخرين وإبلاغهم الحقيقة بشأن الحرب التي تدور الآن في أوكرانيا.
بشجاعة كبيرة، خاض الكاتب الصحافي والباحث في الأدب الأوكراني عماد الدين رائف غمار ترجمة هذه النصوص. وكان قبل ذلك، قد ترجم أكثر من عشرة كتب أوكرانية، بما في ذلك أعمال ليسيا أوكراينكا، فاسيل ستوس، فاسيل غريغوريفيتش بارسكي، أغاتانغل كريمسكي، وغيرهم. ومع ذلك، تبين أن غريغوري سكوفورودا بنصوصه المنظومة، وأسلوبيتها وهندستها النيوية وتميّزها، شكلت تحديًا صعبًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن للغة غريغوري سافيتش تنوّعها الخاص، فقد كتب حواراته وأطروحاته فلسفية باللغة الروسية السلافية (الأوكرانية السلافية)، والحكايات والأشعار بالأوكرانية المكتوبة. يحتوي هذان النوعان من اللغة الأدبية الأوكرانية القديمة على حزمة وازنة من عناصر اللغة الكنيسة السلافية، ومن الواضح أنهما عكاسا في ذلك الوقت ثقافتها وتقاليدها. لكن يبدو أن المترجم عماد الدين رائف نجح في التغلب على هذه التحديات، وفهم الصورة اللغوية لسكوفورودا والتعمق فيها. يحتوي كتاب أعمال غريغوري سافيتش، المقدم للقارئ العربي، على مقدمة كتبها إيهور أوستاش، وترجمة كاملة لمجموعة "حكايات خاركوفية" وديوان "حديقة الأغاني الإلهية". وقد نُظّم العرض الأول للترجمة العربية في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2022، في "المكتبة الشرقية" في بيروت.
الفيلم الوثائقي الأول عن سكوفوردا في العالم العربي
كنوع من الإضافة البصرية للكتاب، صدر الفيلم الوثائقي "غريغوري سكوفورودا. أيها العالم، أنا آت إليك". وميزته الرئيسة أنه أول فيلم مترجم بالكامل إلى اللغة العربية عن مفكر أوكراني. لذا فهو يستهدف جمهورًا ضخمًا من الناطقين بالعربية، يضم نحو 400 مليون مشاهد! اختار مؤلف الفيلم إيهور أوستاش عنوانه الفيلم بشكل رمزي. طيلة حياة غريغوري سافيتش، لم يتمكن العالم من "الإمساك" به، وهذا ما نعرفه من إحدى أشهر الأقوال المأثورة عنه. لكن، أزف زمن آخر الآن، عندما يرغب سكوفورودا من الدنو من العالم بنفسه، يذهب إليه. وهذا أمر مهم، فالمرحلة الحالية تتسم برعبة الأجانب في معرفة المزيد عن ثقافة أوكرانيا وتاريخا، وهذا المنحى في تزايد مضطرد. وقد ضُمّنت الجسور الثقافية بنجاح في الفيلم. على سبيل المثال، يرد فيه أن قرية تشورنوخي، حيث ولد سكوفورودا، تقع بالقرب من قرية غيراسيموفكا، حيث مكث الكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمه لبعض الوقت. كما أنه يوجد تشاب بين سمات سكوفورودا والفلسفة الصوفية المميزة لشعوب الشرق.
أظهر الفيلم الوثائقي حرفية مخرجه ستانيسلاف ليتفينوف في اختيار مواقع التصوير ومهارة المصور ميخايلو شيلست. يمكن للمشاهد العربي أن يرى، على سبيل المثال، منزل سكوفورودا في تشورنوخي، من الداخل والخارج، كما القرن الثامن عشر، عبر الصورة الحية والديناميكية. وأن يتعرف أيضًا على المعالم التاريخية والمعمارية الأخرى التي تعتبر أساسية بالنسبة للأوكرانيين، مثل كنيسة صوفيا في كييف، وأكاديمية كييف موهيلا، ومدينة بوديل التاريخية، وإحدى أكثر مجموعات الكتب قيمة في مكتبة فيرنادسكي الوطنية. كما أن فريق إعداد الفيلم خطا خطوة قوية لإظهار الحقائق الراهنة، على سبيل المثال ، ساحة ميخايلو ، حيث تُعرض الآن بقايا معدات المحتلين المحطمة. ربما كانت الرسالة الأكثر أهمية هي الصورة التي عرضت لنصب الفيلسوف التذكاري المتفحم في سكوفورودينيفكا. استخدم الفيلم أيضًا صورًا من موقع انفجار الصاروخ الروسي، مظهرًا أنقاض متحف سكوفورودا الوطني الأدبي ونصبه التذكاري المحترق.
تتمثل الملامح الفنية للفيلم في الموسيقى، فضلاً عن أعمال الرسم، المستوحاة من غريغوري سافيتش، وهي عبارة عن لوحات ومنحوتات وملصقات لفنانين أوكرانيين معاصرين. قدم تاراس كومبانيتشينكو عشرات المؤلفات الموسيقية ذات الأداء الفريد للفيل، وهي في الأساس أغان لموسيقى سكوفورودا الأصلية. للمناسبة، تم العثور على النوتات الموسيقية نفسها، وتصويرها للفيلم في مكتبة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية وفي معرض كنيسة صوفيا في كييف. بالإضافة إلى ذلك، تمثل الكشف الحقيقي لفريق الفيلم في الأداء النادر والحصري للأغاني الأصلية لسكوفورودا التي أدتها فرقة العازفين المنفردين "بلاهوفيست"، والتي جرت في 3 كانون الأول/ ديسمبر، في حديقة "صوفيا الكييفية" الوطنية. تمكن فريق الفيلم من تسجيل العزف والغناء وتضمين التسجيلات الصوتية فيه. كما يصور الوثائقي أعمال عشرات الفنانين والنحاتين الأوكرانيين المشهورين، وهي لوحات ميكولا بيليك، إيهور رومانيك، أناتولي فورليت، أولكسندر ميلنيك، أولكسندرا غورديتس، إيفان بيلينكو، أولكسندر سيرديوك، بوهدان تكاتشيك، أندري هونشار، أوليغ شوبلياك، فيتالي برافديتسكي، وآخرين. ويظهر منحوتات ميكولا بيليك. وهذه في الواقع فرصة عظيمة لتعريف الجمهور العربي بالأعمال الفنية الأوكرانية الحديثة من خلال منظور سكوفورودا! وللمناسبة كان الفنان أولكسندر ميلنيك مستشارًا فنيًا للفيلم.
في المجمل، على الرغم من أن مدة الفيلم وجيزة، 26 دقيقة، إلا أنه يتضمن العديد من الأعمال الأصلية والحصرية. ومن المقرر أن يعرض فيلم "غريغوري سكوفورودا – أيها العالم، أنا آت إليك"، في مهرجان الفنون في مدينة صور، في عرضه الأول يوم 14 كانون الأول/ ديسمبر، على أن يكون العرض الأول في أوكرانيا في شهر كانون الثاني/ يناير 2023.
أندريانا بيلا
باحثة في العلاقات الأوكرانية - اللبنانية، رئيسة منظمة "المدرسة الأوكرانية للدبلوماسية الثقافية" غير الحكومية، محررة فيلم "غريوري سكوفورودا - أيها العالم، أنا آت إليك".