إيرين روزدوبودكو في روايتها فريدة



الترجمة من الأوكرانية: عماد الدين رائف

فريدة

القسم الأول

1930


بدا الصيف ثقيلًا، مثل حلم في قيلولة. امتدّ كخيط من العسل ينساب من ملعقة خشبية في تيار كهرماني لا نهاية له. هادئ هدوء البحر قبل عاصفة. لم يُشهد صيف كهذا منذ مدة طويلة، لا ريح فيه، ورائحته شذا العنب الناضج المسكر. كان الجميع يتجولون كما لو أنهم ثمالى، واصطبغت نعال الأطفال بالزرقة لسحقها حبات العنب المتهاوية. كانت قطعان الأغنام تتدفق ببطء من الجبال، بمؤازرة غيوم، تغمرها الشمس.

في ذلك اليوم، وفدت عائلة مع أكورديون إلى سيليشي، وانتهى موسم قطف العنب. فاض المحصول عن المعدل متجاوزًا عشرين في المئة، وانتشرت في الأرجاء رائحة حلوة مصحوبة بطنين النحل. 

في ذلك الصباح، سمعت ماريتا، وهي امرأة لم تبلغ من العمر ما يكفي لتؤمن بالمعجزات، صوت المؤذن آتيًا من جانب المسجد الذي نجا من الهدم بأعجوبة. لا يوجد ما هو أكثر روعة من هذا الأذان. كأنه يجعل السماء موشّاة بطرحة بيضاء رقيقة، تنسدل على كتفي عروس بهيّة. وتستحيل الغيوم المرتعشة قرنفلية اللون، عارية هشّة، تمطر نجومًا باهتة على الكروم.

لم يُسمع الأذان في سيليشي منذ مدة طويلة. والمؤذن، عليم آغا، غدا كاتبًا في مكتب التسجيل. تُرك له حصانه، إذ أنه يضطر أحيانًا إلى أن يجوب أرجاء المقاطعة على صهوته، ليوثق المواليد والوفيات، أو ليترجم شيئًا ما لرؤسائه من لغة تتار القرم إن احتاجوا. وما أكثر الرؤساء هنا.. يقطنون في منازل مهجورة، كانت لعائلات ثرية غادرت إلى تركيا منذ أمد طويل. تنعم عائلات العسكريين بالسكنى والهواء النقي. أما جرحى المعارك فيستجمّون تحت شمس تسحب الأمراض من رئاتهم. هناك، بالقرب من الشاطئ، في قصور كانت لمهاجرين فتحولت إلى مصحات ومنتجعات. 


آنذاك، في سيليشي المخبأة بين الجبال، بدأت الحياة تدبّ ببطء في المنازل المهجورة، وصارت أنوارها تتلألأ في الليل من بين أشجار التوت. دار جدل حول جدوى الكهرباء، وهل هناك حاجة إليها في هذا المكان الذي يتعذّر الوصول إليه. في آخر الشارع، حيث منزل ماريتا، يوجد منزل مهجور آخر. يقول الناس إنه بالقرب من التل، يهيم شبح الملكة فيودورا السوجدية، التي ماتت "في هذا المكان بالذات" على التل، الذي كان في السابق جبلًا شاهقًا. حين يجتاز الناس التلّ، كما يقولون، يستمعون إلى تأوهات العشب تحت أقدامهم. ويقسمون أنهم يسمعونه بآذانهم! ينبغي على الكبار أن يذهبوا إلى هناك للتحقق من ذلك، لكن التلّ مرتع الصغار، فهو بالنسبة إلى تلامذة المدرسة المحلية يشكّل المرتفع المشرف الأمثل للتلصص على أفنية منازل القرية ومراقبة ما يجري فيها. 

استيقظ أميت، زعيم عصابة الأطفال البالغ من العمر ثماني سنوات، في وقت مبكر اليوم. كان الوقت مبكرًا جدًا، رأى والده يصلي راكعًا ثم قاعدًا واضعًا كفيه على ركبتيه، فوق سجادة صلاة أكلها العث وأبلاها الزمن. عبس أميت، مستغربًا فعل أبيه الذي كان قد قصد المدينة منذ وقت غير بعيد لابتياع ربطة عنق "الرواد" له، ونهاه عن السؤال عن الله... خشي أميت إزعاج والده، الذي كان منهمكًا في الصلاة، فانزلق بهدوء خلف ظهره. وخرج من المنزل بدون أن يغلق الباب. كان عليه أن يجمع أفراد عصابته قبل أن تستيقظ القرية. ركض إلى شقة سلافكا، التقط حصاة وألقى بها على النافذة. انسلّ سلافكا من تحت البطانية فوجد نفسه في كامل هندامه، فقد أوى إلى الفراش بدون خلع ملابسه كيلا يخذل صديقه.

كانت أمه قد أحضرت الحليب من الحظيرة. فصرخت به مشيرة إلى الكوب: 

- إلى أين في هذا الوقت المبكر؟ اشرب! 

غمس سلافكا وجهه الماكر في الكوب فخرج منه بشارب أبيض رغوي. ثم ابتلع ما في الكوب على عجل فأصابه الفواق: 

- أماه، أنا ذاهب، سأتمشى في القرية، إنه الأحد! 

واندفع مثيرًا الغبار إلى حيث كان أميت يحرك التراب بكعب قدمه الحافي. هرعا معًا إلى تيمور. كان عليهما رمي خمس حصوات لإيقاظه وهما مختبئين وراء الشجيرات. استيقظ تيمور من حلم غريب راوده قبيل الفجر. في حلمه، كان صديقه المقرب، شوركا مخلب الباز، يطارده ليصطاده. لم يكن معتمرًا كساء الهندي الأحمر المزيّن بالريش، بل قبعة عسكرية يعتمرها والده المفوّض المتقاعد. 

في الواقع، كانت تلك لعبتهم الأثيرة منذ مدة طويلة، أن يطلقوا النار بعضهم على بعض بمسدسات خشبية، قبل أن يتصالحوا. إلا أن شوركا كان مختبئًا في خزانة قديمة ولديه مسدس حقيقي ضخم. وكما يحدث فقط في الحلم، خمن تيمور على الفور أن شوركا لن يطلق النار عليه على الإطلاق. إذ لم يكن بيد تيمور سوى فانوس قديم ليحمي نفسه. وبالتالي، فالقوتين غير متكافئتين. تراجع تيمور إلى الزاوية، ممسكًا فانوسه. أتى صرير باب الخزانة منذرًا بالسوء. مد تيمور قدمه فاتحًا الباب، الذي أحدث صريرًا من جانب واحد. خرج شوركا من الخزانة موجًا فوّهة مسدسه مباشرة إلى تيمور. لكن ضوء فانوس تيمور أعماه، فانكمش شوركا، وغطى عينيه بيده الأخرى. استمرت تلك اللحظة التي نظر فيها واحدهما إلى الآخر، إلى الأبد. سحب شوركا الزناد. أراد تيمور أن يصرخ كفى! لكن لم يكن لديه صوت في الحلم! نظر إلى عيني رفيقه بجدية وعدوانية، الذي ارتجف إصبعه على الزناد. صرخ تيمور:

- هيّا، أطلق النار يا مخلب الباز.

انسحب شوركا إلى الجدار، حيث كانت أكياس البطاطس مكوّمة، تعثر بها وألقى رأسه للخلف و... فأطلق النار على صدغه... استيقظ تيمور من الأزيز الحاد.

كان ذلك صوت ارتطام الحصوة بالنافذة، أي أن رفاقه ينادونه لبنهض ويركض خارجًا. ففي الخارج كل شيء ممتع، وهناك الكثير من اللهو. سمع من أمه أنه يجب أن يقصّ كابوسه على شخص ما على الفور كيلا يتحقق. لكن على من؟ تذكر تيمور برعب، لا يقل حدّة عن رعب الكابوس، أن صديقه المقرب، الهندي الأحمر مخلب الباز، غادر القرية مع والديه أمس. ولم تكن هناك مأساة أعظم من هذه في حياته. فهي كأنما قُطعت يده أو فُقئت عينه. لا عجب إن كان صديقاه الواقفان خلف النافذة قد أعدا وسيلة ترفيهية جديدة، إلا أن لا أحد يمكنه أن يحل محل شوركا! كان مثل عينه ويده.

فرك تيمور قدميه الباردتين، وهز رأسه الأجعد الشعر، الذي لم يعرف المشط إليه سبيلًا منذ أمد طويل. ألقى البطانية عنه وأدخل رجليه في السروال بسرعة...

فصل من رواية "فريدة"، إيرين روزدوبودكو (نورادروك)



من الكاتبة

لبطلة هذه الرواية شخصية أولية ثانوية، فهي فتاة من تتار القرم أنقذت، أثناء احتلال النازيين لشبه الجزيرة، الأطفال من الإعدام. وبعد مرور حقبة كاملة، وجدها أولئك الأشخاص الذين أنقذتهم، وقد باتت المرأة المسنة "سيدة العالم الصالحة" منسية ومعذبة بعد كل ما مرّ عليها في ظل النظامين الفاشي والسوفياتي. هذه حقيقة.

أما كل شيء آخر فملفق، ومن خيال المؤلف. تلفيق معمّم وذاتي في آن، يصوّر بشكل عام كيف تتشابك القرية بجميع سكانها، والخيال إلى حد ما يشبه تشابك الكروم.

الكاتبة لا تلج حرم المؤرخ، بل تمكث على الأرجح، عند أخفت حسّ من أوجز مكالمة تهمس في عمق الليل بأصوات آلالف المنفيين: "سأعود، سأعود". وتذكّرنا أن منزلنا دائمًا معنا. يمكن للعدو أن يقتلعنا منه، لكن لا يمكن أن يقتلعه منّا إن كنا نؤمن بالعودة إليه. 

يمكن للعدو أن يطردنا، لكن لا يمكنه قهرنا.

المصدر: دار نورادروك، كييف (اضغط هنا)