تحديات الترجمة الأدبية من السلافية الكنسية – رحلة بارسكي نموذجًا


 

في 2 أيار/ مايو 2023، تشرفت بالمشاركة في منتدى البحث العلمي التاسع للباحثين الشباب الذي نظمته كلية الألسن في جامعة عين شمس بعنوان "الاتجاهات الحديثة في دراسات اللغة والأدب والترجمة"، وذلك بورقة بحثية حول "تحديات الترجمة الأدبية من السلافية الكنسية – رحلة فاسيل بارسكي نموذجًا". الشكر للأستاذة الدكتورة دينا محمد عبده على دعوتها لي.

الورقة البحثة مبنيّة على تجربة عملية في الترجمة الأدبية، وهي تركز على التحديات التي تواجه المترجم في العمل على نقل النص الأدبي من السلافية الكنسية إلى العربية، سواء في العوائق السياسية والمادية، أو في رهانات الترجمة الأدبية نفسها، المتمثلة في الحفاظ على المعنى والخصائص الفنية والجمالية للنص الأصلي. موضوع (مدوّنة) الورقة كتاب "رحلة فاسيل بارسكي إلى الديار المقدسة في الشرق من 1723 إلى 1747"، الصادر في أربعة مجلدات عن "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" في مدينة سان بطرسبورغ بين عامي 1885 و1887. 

في قسمه الأول، يضيء البحث على الرحالة الكاتب فاسيل (فاسيلي، باسيل) غريغورورفيتش بارسكي (1701-1474) ومسار رحلته إلى الشرق (الاقتصار منها على: مصر، فلسطين، سوريا، لبنان)، التي استمرت نحو ربع قرن، وتعرّف بمدونة البحث: مخطوطاتها وطبعاتها الأولى، ومحتواها. ويتناول أهمية اختيار الرحلة للترجمة إلى العربية، كإحدى أهم الوثائق السلافية الكنسية عن بلادنا في النصف الأول من القرن الثامن عشر.  

في قسمه الثاني، يفصل البحث في عنوانين: الأول، العوائق السياسية والمادية في ترجمة نصوص أعلام الأدب، في ظل المتغيرات الجيوسياسية في العقود الثلاثة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهورياته على أساس قومي. ما جعل بعض الأدباء الكبار رموزًا قومية أوكرانية وأهملوا من قبل القوميين الروس، مثل فاسيل بارسكي الكييفي الذي طبعت أعماله للمرة الأولى في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، وغريغوري سكوفورودا الخاركوفي (1722-1794)، الذي كان قد لقّب بسقراط الروسي... مع العلم أن هؤلاء الأعلام كتبوا نصوصهم بالسلافية الكنسية والروسية القديمة. أما العوائق المادية فأبرزها الوقت والجهد الكبيرين اللذين تتطلبهما عملية دراسة هذه النصوص ونقلها إلى العربية والتعليق عليها، وعدم وجود دعم للترجمة. 

العنوان الثاني في هذا القسم مخصص لتحديات ترجمة نصوص فاسيل بارسكي إلى اللغة العربية، مع المحافظة على روح النصّ المكتوب بلغة كنسية بائدة ذات حقل معجمي محدود، وإمكانات العناية بالخصائص الفنية والجمالية في النص المنقول، بما يتوافق مع النص الأصلي. وقد عولج هذا العنوان في المحاور الآتية:

أ. إعداد النص للترجمة: كان لتحديد بلاد الشام وفلسطين (المشرق) من رحلة بارسكي دور حاسم في الاقتصار على ما سرده عن هذه الديار في الجزئين الأول والثاني من كتابه (أي عدم ترجمة النصوص المتعلقة بمصر وسيناء وشرق الأردن). كما أن بارسكي، الذي يتحدث كرجل دين أرثوذكسي متعصّب لمذهبه تجاه المذاهب المسيحية الأخرى وكمسيحي أوروبي تجاه الأديان والأعراق الأخرى، أورد بلغة أهل زمانه وعلى طريقتهم عبارات اقتضت الحذف مع الإشارة إلى مواضعه. 

ب. أسلوب الكاتب: عند دراسة النص، يظهر بوضوح أن الكاتب يستخدم حقلين معجميين مختلفين؛ الأول، حين يتناول الطقوس المسيحية المتعلقة بالقداديس المختلفة أو الخدمة الكنسية، والأديرة والرهبنة، والمصطلحات اللتروجية واللاهوتية، يختلط فيه الإغريقي باللاتيني والسلافي الكنسي، مع اقتباسات من الأسفار المقدسة من ترجمة قديمة إلى السلافية، فنجده رهين هذا الحقل المعجمي. أما الثاني فعندما يصف المدن والقرى وأحوال أهلها وما جرى عليه من أهوال ومخاطر فيها، فنراه يستخدم اللغة التي كانت سائدة في بلاده مطلع القرن الثامن عشر.  

ج. إعداد معجم الترجمة: إن المعاجم الحديثة (ورقية وإلكترونية) غير ذات فائدة في الترجمة من اللغة السلافية الكنسية، وهي بنسبة معتبرة مضللة للمترجم، إذ إن اللفظ نفسه بعد إعادة كتابته وفق قواعد الإملاء الحديثة يكون قد اتخذ معنى آخر مع الزمن. فبعدما يكون المترجم قد تآلف مع بنى الجمل لدى الكاتب، لا بد له أن يعتمد على المعاجم الخاصة بتينك اللغتين، وأبرزها أعمال اللاهوتي غريغوري دياتشينكو (1850-1903) المعجمية في السلافية الكنسية، وأعمال الباحثة اللغوية أولغا سيداكوفا (مواليد 1947) حول كنايات لغة الكنسية السلافية في روسيا ومصطلحات العبادة، بالإضافة إلى أعمال الباحثين في تاريخ اللغة الكنسية وصولًا إلى القرن التاسع عشر. 

د. في الترجمة: بعد تذليل عقبات الحقل المعجمي والمعاني وتحرير النصّ من بعض القوالب النمطية الخاضعة لجهل الكاتب ببعض الأعراف والعادات أو باللغة المحلية، يصطدم المترجم بالمصطلحات وأسماء الأماكن والأعلام والمقاييس والأوزان والجهات والنقود وقيمها... وينتقل إلى المجازات والكنايات والأمثلة السائرة، وما يمكن أن يقابلها باللغة العربية التي كانت سائدة قبل ثلاثة قرون من الزمن. 

هـ. في المسكوت عنه: يقدم الكاتب شهادة حية بالكلمة والرسم لرحلته إلى الديار المقدسة، لكنه عفل عن عدد من القضايا السياسية والاجتماعية التي كان يمكن أن تشكل الخلفية العامة للنص، فقد كان مشغولًا عنها بتدوين مجريات رحلته، ما ألزم المترجم بكم كبير من الهوامش والتوضيحات المتعلقة بالنصّ كي يجعله أكثر قربًا من القارئ العربي في القرن الحادي والعشرين. 

في المحصّلة، بعد مواجهة التحديات وتذليل معظم العقبات، يخرج النصّ في كتاب: فاسيل بارسكي، الرحلة إلى الديار المقدسة في الشرق (بيروت: دار المصور العربي، 2021) 176 ص. وقد تضمن نصّ بارسكي السلافي الكنسي مترجمًا إلى العربية، مع الرسوم التي تضمنها الكتاب الأصلي عن فلسطين وسوريا ولبنان.