كتب حسان الزين
يحفر عماد الدين رائف، منذ سنوات، هويّته كمتخصّص في الآداب السلافية. يفعل ذلك بالإبرة، وبكثير من العناد والمكابدة ومواجهة التحدّيات والصعوبات وحيداً، إلى درجة توحي وكأن في الأمر عقيدة. لقد ترجم، حتى الساعة، 26 كتاباً، من الروسية والأوكرانية، إضافة إلى خمسة كتب بحثية ودراسات ومقالات ومشاركات في عدد من المؤتمرات. ويُحسب لرائف أنه بات صاحب مشروع يقدّم الكتَّاب الذين همّشهم الإتحاد السوفياتي، إضافة إلى تركيزه على ما يعني لبنان وسوريا وفلسطين من تلك المكتبة الغنية. ولمناسبة صدور كتابه الجديد، «ستيبان كوندوروشكين - دمشق 1902»، عن «دار المصور العربي»، وفي اليوم الدولي للترجمة (30 أيلول) أجرينا معه هذا الحوار:
الترجمة من الروسية إلى العربية قديمة، ازدهرت أيام الاتحاد السوفياتي، فما الجديد الذي يقدّمه عماد الدين رائف، وما رأيك في تجربتها السابقة، مهنياً وثقافياً، وحتى سياسياً؟
انطلقت مسيرة الترجمة من الروسية إلى العربية في الحقبة القيصرية، مع انتشار مدارس «الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الأرثوذكسية» في المشرق (1882 - 1914)، حيث ترجم معلمو هذه المدارس وخريجوها عدداً من الكتب وبينها نصوص أدبية. أما في الحقبة السوفياتية فنشرت عشرات آلاف العناوين المترجمة، وهكذا تعرّف القارئ العربي إلى أدباء العصرين الذهبي والفضي القيصريين، والحقبة السوفياتية. ترجم تلك الأعمال مترجمون عرب مقيمون في روسيا السوفياتية شكلوا طبقة المترجمين الأساتذة، ومعظمهم من الأدباء المعروفين. أما في العقود الثلاثة الماضية، فقد انتكست حركة الترجمة الأدبية تحديداً.
ونلاحظ أن السوفيات أهملوا عمداً عدداً كبيراً من الكتّاب الروس، الذين ملأوا الساحة الأدبية الروسية في العقدين الأولين من القرن العشرين، لخلافهم الفكري والسياسي معهم، فاختفت أسماؤهم وأعمالهم. قدّر لي أن أطّلع على نصوص هؤلاء المنسيين أثناء إدارتي وإعدادي برنامج «حديث روسيا» الثقافي (2011-2016) عبر أثير إذاعة «صوت الشعب». خوّلني العمل لمدة 285 أسبوعاً أن أدرس الأدب الروسي من جديد، بالإضافة إلى آداب الشعوب السلافية. ولعلّ الإضاءة على أعمال عدد من أولئك المنسيين هي الجديد الذي قدمته إلى المكتبة العربية.
تهتم أكثر في ترجمة الكتب التاريخية والثقافية، لماذا؟ أليس ذلك على حساب الكتب الجديدة، التي ترجمت منها عدداً محدوداً، في حين أن هناك أدباً وفكراً جديدين ناشطين في روسيا وأوكرانيا؟
قررت في البداية أن أنقل إلى العربية كل ما كتب عن المشرق، فدرست وترجمت ونشرت أعمال ستيبان كوندوروشكين، من الروسية: «حكايات كوندوروشكين» (2016)، «قصص سورية» (2019)، و»دمشق 1902» (2023). ومن الأوكرانية أعمال أغاتانغل كريمسكي «قصص بيروتية» (2017)، وديوان «سعف النخيل» (كييف، 2019)، ومن التشيكية نشرت فصولاً من كتاب «الهلال المقلوب» ليرجي هنزلكا وميروسلاف زيكموند عن بيروت سنة 1959 ضمن كتابي «من بيروت وعنها» (بيروت، 2018)، وعن طرابلس ضمن كتابي «أبعد من الشرق» (القاهرة، 2020). إذاً، تعلقت مسألة الترجمة في البداية بكون النص يتحدث عن بلادنا وناسها سواء أكان من أدب الرحلة أم القصة أم الشعر. وكان هذا منشأ اهتمامي.
أنتجت نحو ثلاثين كتاباً بالعربية بين البحث والترجمة، وعشرات البحوث بالعربية والروسية والأوكرانية، بالإضافة إلى عشرات المقالات عن الآداب السلافية. لولا تعرّفي إلى السفير الأوكراني السابق البروفيسور إيهور أوستاش وعقيلته الأكاديمية مارينا هريميتش، لكنت توقفت عن الترجمة من الأوكرانية عام 2017. إلا أن تفانيهما الصادق في خدمة الثقافة وصداقتنا شكّلا ظروفاً ملائمة لإصدار 14 كتاباً نقلتها من الأوكرانية الحديثة والقديمة، والسلافية والكييفية الكنسيتين. بينها رحلة فاسيل بارسكي إلى الديار المقدسة في الشرق – القرن 18 (2021)، وكتاب «الأوكران ولبنان» (2019) لأوستاش نفسه.
بين الكتب المترجمة أربع روايات حديثة نقلتها من الأوكرانية هي «أجنبية في سيارة حمراء» لمارينا هريميتش (2020)، و»زمن الأحجار المتناثرة» لفولوديمير سومايلينكو (2021)، و»هناك حيث يختفي البشر» لأندريه كوكوتيوخا (2022)، و»الأشجار النحاسية» لليوبكو ديريش (قيد الطبع في القاهرة). هؤلاء الروائيون معروفون جداً في أوكرانيا الحديثة، وهذه الترجمات مدعومة من برنامج «المعهد الأوكراني للكتاب» التابع لوزارة الثقافة الأوكرانية. أعتقد أن معدل إصدار رواية حديثة واحدة في السنة مقبول، لا سيّما أنني افتتحت هذا الطريق من الأوكرانية إلى العربية مباشرة من دون المرور بلغة وسيطة.
ألاحظ غياب الكتب السياسية والفكرية عن ترجماتك، لماذا؟
أنا أكره السياسة. ربما هذا ناتج عمّا يُسمّى «سياسة» في بلادنا. أشعر أنها مستنقع قذر لا بد لك أن تتلوث إن لمسته، فكيف إن خضت فيه؟ أميل إلى المنتج الأدبي حتى لو كنت أترجم لمفكر أو فيلسوف، كما هي الحال مع أعمال غريغوري سكوفورودا (القرن الـ18)، حيث ترجمت له مجموعة «قصص خاركوفية» و»حديقة الأغاني الإلهية» (2023)، فهذه النصوص تعكس مقولاته الفلسفية، لكنها سُكبت في فني الشعر والحكايات. لكن بالتوازي مع ذلك، ترجمت عدداً من الكتب يمكن إدراجها في الاجتماع والاقتصاد السياسيين، ومنها كتابان توثيقيان لمكسيم غريغوريف عن سوريا، و»مجازات تونس الخفية – أن تعيش الثورة وترويها» لفاسيلي كوزنتسوف، و»تاريخ الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين» لنيقولاي سوخوف، و»اقتصاد سوريا السياسي في الأزمة» لإيغور ماتفييف، و «الموجز في تاريخ أوكرانيا» لأولكسندر بالي، وغيرها.
هل في اعتقادك إزداد الاهتمام العربي بالترجمة من الروسية بعد الأزمة الأوكرانية؟
ربما زاد الاهتمام العربي في الموضوعات السياسية والعسكرية، أما الاهتمام بالأدب المترجم فهو للأسف سطحي، ومحصور بعدد محدود من أعمال كبار أدباء العصر الفضي الروسي، اللهم إلا لدى القرّاء المثقفين والمتخصصين. في المرحلة الأولى من الأزمة، حاولت أوكرانيا، عبر مؤسساتها الثقافية وممثلياتها أن تشرح هويتها المميزة القائمة على القومية ونظرتها إلى طبيعة الصراع، أما اليوم فهي تعمل على جبهة مفتوحة. كذلك الأمر في روسيا، عبر «وكالة التعاون» التي تنتشر مراكزها الثقافية في ثمانين بلداً حول العالم حيث تصارع موجة الإلغاء الغربية الشرسة التي حاولت أن تطول كل ما هو روسي. أعتقد أن موجة شيطنة الثقافة الروسية فشلت، بل كان لها رد فعل عكسي في أميركا اللاتينية وأفريقيا، فالثقافة لا يمكن إلغاؤها.
من خلال متابعتك: ما هي انشغالات الأدب والفكر والثقافة عموماً في تلك البلاد؟
خلال العقود الماضية مورست سياسة تسليع الكتاب في الاتحاد الروسي، حيث تلتهم دور النشر الكبيرة تلك الصغيرة، ولكلِّ دار كبيرة نُقّاد جاهزون لكيل المدائح لمنتجاتها. الحال في البلدان السلافية عموماً ليست أفضل حالاً مما هي لدينا من حيث النشر والجوائز الأدبية، التي تفتح الباب غالباً أمام بعض الأسماء لاعتبارات غير أدبية. الفارق أن نسبة القرّاء لديهم أكبر بكثير مما هي لدينا، حيث يقرأ المواطن نحو ثمانية كتب سنوياً بينما لدينا لا تصل قراءته إلى صفحة واحدة. في الآونة الأخيرة، لوحظ توجه الأقلام الأوكرانية إلى الكتابة عن الحرب ومآسيها من منطلق قومي. أما في روسيا التي لا تخوض حرباً، بل عملية عسكرية خاصة، فلم يحظ الموضوع بالاهتمام سوى في القرم والدونباس. نحن في انتظار منتج أدبي جيد يعبّر عن هذه المرحلة من الطرفين، من داخل البلاد وخارجها، ربما بأقلام اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا أو الروس الذين غادروا بلادهم إثر الحرب.
لماذا اخترت الكتاب الأخير، «ستيبان كوندوروشكين. دمشق 1902» (دار المصور العربي)، للترجمة؟
إنه يأتي في سياق ترجمة الوثائق التاريخية والأعمال الأدبية للكتاب السلاف المرتبطة ببلادنا. فصله الأول ترجمة بحث «دمشق» بقلم كوندوروشكين الذي عمل مفتشاً تربوياً في مدارس «الجمعية الفلسطينية» في دائرة سوريا الجنوبية بين 1898 و1903. أما الفصل الثاني فخصّصته للتعريف بكوندوروشكين وأعماله، مع الإضاءة على المرحلة التي أمضاها في المشرق. يتميز بحث «دمشق» بكونه أحاط بالجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والثقافية والتربوية والصحية، وبوصفه الحيّ للمدينة. أسلوب كوندوروشكين سينمائي حيّ يمكّن القارئ من لمس حركة المدينة في تلك الحقبة. وأضاف الكاتب إلى بحثه نحو عشرين صورة التقطها بنفسه.
تلقى الكتب التي تترجمها أصداء لدى فئات واسعة من القراء، كيف تقرأ ذلك، وما الصعوبات التي تواجه نصاً مترجماً من اللغات السلافية إلى العربية؟
نحو نصف الكتب التي ترجمتها اخترتها بعناية. فهي تتحدث عن الناس في بلادنا. يشعر القارئ أن الكاتب يتحدث عن أجداده وناسه وأنه على تماس مباشر مع ما رآه الكاتب ودوّنه. هناك صعوبات، لخّصتها في أيار الماضي، في منتدى كلية الألسن في جامعة عين شمس، وهي سياسية، وتقنية حيث تختفي قواميس بعض اللهجات السلافية القديمة، ومادية فلا تمويل لأعمال كهذه. في أي حال، بات بإمكان عشاق الأدب أن يطلعوا على أعمال أدباء كبار كانوا مغيّبين مثل تاراس شيفتشينكو وإيفان فرانكو وليسيا أوكراينكا وفاسيل ستوس، وغيرهم. وهذه إضافة جيدة للمكتبة العربية.
مسألة إيمان وعشق
لماذا يترجم عماد الدين رائف، إلى حدّ يبدو معه هذا الفعل كفاحاً فرديّاً ولعلّه على حساب منتجه الخاص؟
ولا يتردّد في القول إنه يؤمن «بخلود الكلمة الأدبية وبأن كل ترجمة تمنحها حياة جديدة». يضيف: «أؤمن بأن الكلمة الأدبية نثراً وشعراً تملك تأثيراً سحرياً يمكنه أن يجعل البشرية أفضل، وإن كانت هذه العملية بطيئة. إنها مسألة إيمان وعشق». ويؤكد أن «الغاية لم تكن مادية من وراء الترجمة، فهي عملية مرهقة مضنية وطويلة في آن، والبدل المالي في بلادنا لا يساوي التعب. في الوقت نفسه، تشغلني أفكار حول بحوث لم تكتمل، وقد نشرت ثلاثة كتب مع آخرين في موسكو، وشاركت في نحو ثلاثين ورقة نشرت في كييف ولفيف ولوتسك... يعجبني التقارب في الأفكار وفي عشق اللغة والأدب مع الباحثين من أقطار شتى. كلمتي هي نفسها لا تتغير سواء أكنت في بيروت أم موسكو أم كييف أم القاهرة أم أبو ظبي».
يقرأ رائف كثيراً وينتقي ممّا يقرأ. يقول: «تتراكم النصوص التي تنتظر الترجمة، لكن الحياة تستدعي أن أكون في أماكن أخرى لأعمل فأكسب بعض المال. وهكذا فإن معظم الجهد والوقت يذهب إلى العمل على موضوعات حقوقية مطلبية تتعلق بحقوق الإنسان في بلادنا، لا سيما حقوق فئة الأشخاص المعوقين. ويسعدني أنني خلال العقدين الماضيين قدمت عشرات الدراسات والبحوث المتخصصة والمقالات في هذا الموضوع».
ويروي: «عندما يتوفر الوقت أترجم لمتعة شخصية. وكأن ترجمة الأدب باتت شرفتي للهروب من الواقع القاسي. هي شرفة أطلّ منها على المعاني الكبرى، على الأمل والجمال والحب والحقيقة... أحبّ مترجمي الأدب، أشعر بالسعادة حين ألتقي بهم أو أقرأ مقالاتهم وإدراجاتهم ونهفاتهم. هم في الواقع أشخاص مميزون يعيشون في اللحظة نفسها على ضفتين أو ثلاث. تحية إلى أقلامهم التي تنقل الفكر وتكشف الحجب.