"أغنية الغابة" على خشبة المسرح الجزائري



الجزائر - ناتاليا موسينكو، أولكسندر سكرتيروف. 


عندما سألتها مجلة "آلجيري أكتواليت" (Algerie Actualite) الأسبوعية عن سبب اختيارها هذه المسرحية غير المعروفة لدى الجزائريين لظهورها الأول على خشبة المسرح، أجابت حميدة أن عمل ليسيا أوكرينكا أسرها بجماله وعمق فكره. تقول حميدة: "بالنسبة إليّ، أغنية الغابة هي هاملت الأوكرانية".

صار افتتاح موسم المسرح الوطني الجزائري بالعرض الأول لأغنية الغابة حدثًا بارزًا في الحياة الثقافية للبلاد، وغدا حديث الحياة الثقافية. فقد أظهر العرض الجزائري الأول لمسرحية "أغنية الغابة" من جديد حداثة هذا العمل وأهميته. لقد تأثر الجمهور بحب مافكا المتفاني لدوكاش...



من المعروف أن التراث الثقافي الإسلامي يلعب دورًا حاسمًا في الرؤية العامة للشعب الجزائري. فقد بقي من المحظور تصوير الأشخاص في الفنون الجميلة لمدة طويلة من الزمن، ولعدة قرون غابت المرأة عن المسرح، وأدرجت مشاهد الحب بين المحرمات... لكن كلّ هذا، وعلى الرغم من أنه أصبح من الماضي، إلا أنه ترك بصماته على الوجه الحديث للفن الجزائري. في الماضي، كان الارتجال والإفراط فيه هو القاعدة في المسرح الكلاسيكي، حيث لم يلتزم الممثلون بنص العمل، ولعل العمل نفسه لم يكن موجودًا في نسخة مكتوبة أصلًا. وهذا يدل على الارتباط الوثيق بين المسرح الجزائري والتراث الشعبي من ناحية، لكن من ناحية أخرى، حين يحمل العمل سمات تقليدية فهو يغدو مع التنفيذ المسرحي للدراما العالمية الكلاسيكية، أقرب إلى المسرح الحديث. من هنا، ليس من المستغرب أن يلقى ظهور "أغنية الغابة" في الجزائر عام 1986 مثل هذا الصدى الواسع. كتبت صحيفة "المجاهد": "إنه عمل حديث للغاية". وسطّرت "آلجيري أكتواليت": "إنها مرحلة مهمة في تاريخ المسرح الجزائري"، مشيرة "إلى أن القضايا التي أثيرت في مسرحية ليسيا، والصراع بين الخير والشر، وقوة الحب العظيمة، أمور ضرورية، خاصة بالنسبة لجمهور الشباب. إنها قضايا لا تشيخ". 

ولم يكن من قبيل الصدفة أن تختار المخرجة الشابة حميدة آيت الحاج أحد الأعمال الكلاسيكية الأوكرانية لظهورها الأول، فهي خريجة معهد إ.ك. كاربينكو الحكومي للفنون المسرحية في كييف، حيث درست في كلية الدراما. هناك وقعت في حب أعمال ليسيا أوكراينكا وعلى وجه التحديد باتت مهتمة "أغنية الغابة".

في العام 1985، قدمت حميدة هذه المسرحية لمناسبة تخرجها في مدينة جدانوف. "الدعم والتفاهم المتبادل مع الممثلين حوّل عملي إلى احتفال بالإبداع. لقد كان أفضل وقت في حياتي"، وتتذكر حميدة كيف ساعدها الممثلون هـ. سافرونوفا، ن. أتروشينكوفا، ن. يورجنس، "لقد عاملوني بتسامح كبير، متفهمين مشاكلي كمخرجة مبتدئة. كانت "أغنية الغابة" على خشبة مسرح جدانوفسكي مدرسة جيدة بالنسبة إلي، وكانت تجسيدا لخططي". وبطبيعة الحال، لولا ذلك لكان عليها أن تعمل في الجزائر... ومن أجل إيصال "أغنية الغابة" إلى الجمهور الجزائري، كان على المخرجة أن تتغلب على العديد من الصعوبات.

لم تُمثّل مسرحية "أغنية الغابة" باللغة العربية من قبل، وخاصة باللهجة الجزائرية. ولذلك، تولت حميدة أولاً مهمة ترجمة المسرحية إلى هذه اللهجة، وقد ساعدها في هذه المهمة الصعبة أحمد بوخلاط، أستاذ الأدب العربي في المعهد الوطني للفنون الدرامية والكوريغرافيا. قال إنه وقع في حب مافكا وكان يبحث عن حورية الغابة هذه في شوارع الجزائر الحديثة. لكن الأمر تعقد لأن أحمد لا يعرف اللغة الأوكرانية، وليس لدى حميدة خبرة في الترجمة. وعلى الرغم من أن المسرحية أديت بالفعل بنجاح كبير على المسرح، إلا أن المترجمين يعتبران أن عملهما غير مكتمل ويواصلان عملهما على النصّ، يحلمان بنشر "أغنية الغابة" في الجزائر في كتاب.

تكمن أهمية نقل العمل إلى ثقافة أخرى في الجوهر العالمي للفولكلور، وفي مدى تشابه الشخصيات الخيالية عند الشعوب البعيدة عن بعضها البعض، وقد بات هذا النقل خطابًا كلاسيكيًا. إن ترجمة "أغنية الغابة" هي محاولة للمقارنة الفنية بين التراثين الأوكراني والعربي في الوقت نفسه. على سبيل المثال، صورة حورية الغابة التي تتحول إلى صفصافة مفهومة في الجزائر. اسم مافكا الجزائري هو النجية، وبيريليسنيك يشبه إلى حد بعيد عقلي أوزال، وهو، مثل نظيره الأوكراني، جميل ورشيق، ويظهر فجأة عند الظهر، عندما تكون الشمس في ذروتها، ويخيف الناس. الشخصية القاتمة للجالس في الصخرة مألوفة كذلك، ففي الجزائر هو ذاك الذي يمشي في المقابر ويقبض أرواح الموتى ويظهر على شكل ثعبان. لديهم أيضًا حوريات الماء الخاصة بهم، والأرواح المائية التي تذكرنا بالأطفال التائهين.



جسّد المترجمان مفهومهما للعمل عبر الديكور المسرحي والأزياء التي عني بها الفنان كمال نزار، الذي استمد من الفلكلور الجزائري رموزًا تصويرية لشخصيات وجدت في الذاكرة الشعبية منذ القدم، فظهر بيريليسنيك وكأن شمسًا نارية تظهر في ردائه، فيما يتلوى الجالس في الصخرة كثعبان من تحت عباءة قابض الأرواح. 

أصبح العرض الأول لأغنية الغابة خطوة جديدة ونوعية في تطوير المسرح الوطني الجزائري، وذلك لأن تجسيد هذا العمل الرائع مستحيل بدون الاستخدام المكثّف للفنون التشكيلية وتصاميم الرقصات والموسيقى. في البداية، نشرت حميدة بين زملائها مفهوم "فنّ التضامن" الذي كان محلّ شك، لكن الممثلين، وبينهم عدد قليل من الشباب، اتبعوا تقاليد مسرحية محددة ، إذ كان نظام ستانيسلافسكي، الذي اعتمدت عليه خريجة معهد كييف، غير معروف لديهم إلى حد كبير. 

الدراما المسرحية التي تتحدث عن الحب، والعلاقة الرومانسية بين مافكا ولوكاش، وتفجّر المشاعر والقبلة الأولى، كلها أمور كانت جديدة على على الجمهور والممثلين أنفسهم في آن معًا. فترت حماسة المخرجة الشابة إلى حد ما، إلا أن الابتكار شق طريقه إلى الخشبة ودعمها الممثلون. لم يكن كل شيء ناجحًا في المحاولة الأولى، وقد أدركت حميدة ذلك جيدًا، وتتذكر كيف كانت الأمور أكثر سهولة على خشبة مسرح جدانوف في كييف، فيصعب على نحو خاص استبدال الاحترافية العالية في التمثيل بأي أداء آخر... ففي الجزائر، لا تزال هذه الاحترافية نادرة، ومعظم الممثلين هواة، فعلى الرغم من وجود عازفين منفردين مثلا، إلا أنهم لا يشكلون فرقة واحدة. 

لكن بات التركيز على شخصية مافكا منقذًا، فحورية الغابة هذه المفعمة بالحب ونكران الذات رائعة، وقد جسدتها الممثلة دليلة خليل فأسرت قلوب الجمهور على الفور. بالنسبة إليها هذا ليس مجرد نجاح في التمثيل بل إنجازًا إبداعيًا ضخمًا ودورًا سيرافقها مدى الحياة. أدى عز الدين مجوبي دور لوكاش، وهو يلاحظ أثناء حديثه عن المسرحية: "المهم أننا كممثلين فهمنا العمل بعمق وأحببناه، من الغريب أن أعمال شاعرة عظيمة مثل ليسيا أوكراينكا لم تترجم حتى اليوم لدينا. نحن نعرف أعمال العديد من الشعراء والكتاب المسرحيين والأدباء الذين لا يمكن مقارنتها بأعمال هذه المرأة العظيمة". من الواضح أن تعميم الأعمال البارزة في الأدب الكلاسيكي الأوكراني مسألة ضرورية، وينبغي أن تسلك طريقها إلى القراء أو أن تجسد على خشبة المسرح في بلدان مختلفة حول العالم.   

"دوجة، أوكرانية من الجزائر"، هكذا سمّت الصحافة الجزائرية الممثلة التي لعبت دور الأم. في الواقع كانت النكهة الأوكرانية لديها أكثر وضوحًا بين جميع الممثلين. كما أن شكل دوجة يبدو كأنه أوكراني. برأيها، صورة الأم في العمل قريبة للغاية من صورتها لدى الجزائريين، وذلك لأن مشكلة التسلط والاستبداد الذي يمارسه الوالدان على الأولاد لا تزال موجودة. 

لم تكترث حميدة بالصعوبات، ولم تمض في طريق تبسيط الفكرة، بل أعادت إنتاج رائعة ليسيا أوكراينكا الرومانسية على خشبة المسرح، وملأتها بمشاهد واقعية، وجعلت عمل الشاعرة الأوكرانية العظيمة أقرب ما يمكن إلى الجمهور الجزائري. إن استخدام الفنون التشكيلية لتعزيز عاطفية الشخصيات، والجمع المتناغم بين الواقعي والساحر هو إنجاز مذهل للمخرجة الشابة. من الواضح أن العرض الأول لم يوصل كل شيء في العمل، لكن كما جاء في "آلجيري أكتواليت": "أغنية الغابة" هي أمل الموسم المسرحي، وقد أنتج المسرح الجزائري مخرجة مؤهلة تأهيلا عاليًا. وللمناسبة هي أولى المخرجات. أخيرًا كذلك، كان الظهور الأول لمخرجة أخرى، وهي فايزة شقيقة حميدة، وهي أيضًا خريجة معهد إ.ك. كاربينكو الحكومي للفنون المسرحية في كييف، وعمل على إعداد مسرحية آرثر ميلر "موت بائع متجول" لعرضها على خشبة المسرح الوطني الجزائري. تعمل الشقيقتان في التدريس في المعهد الوطني للفنون الدرامية والكوريغرافيا، وتحلمان بإنشاء استوديو مسرحي، وتساهمان معًا في تكوين قوى تمثيلية شابة في الجزائر، ويشاركهما هذا العمل خريجنا معيوف عمر. أما المخرج الشاب علال وهو كذلك خريج معهد كييف، فيصب جهوده على عروض مسرح الأطفال.

هكذا نقلت لؤلؤة الشعر الأوكراني "أغنية الغابة" إلى المشاهد الجزائري، وهي تلعب دورًا هامًا في تنمية العلاقات القيمة بين شعبينا، والمسرح والسينما وسيلتان ممتازتان لتحقيق غاية كهذه.


المصدر: "أغنية الغابة" على خشبة المسرح الجزائري، ناتاليا موسينكو وأولكسندر سكرتيروف/ مجلة "فسيسفيت"، العدد 10، 1987. ص 153 – 154.