إيرين روزدوبودكو في روايتها "اثنا عشر"... سفر الهروب


 

خلال الأعوام الماضية تسنى لي أن أقرأ بعض روايات الكاتبة الأوكرانية إيرين روزدوبودكو، التي تشغل أعمالها حيزًا مهمًا في الحياة الأدبية في أوكرانيا. كما تسنى لي أن أعمل على ترجمة مقتطفات لروايتين لها وذلك بطلب من ناشرين عرب رغبوا في إصدار أول ترجمة عربية لعمل من أعمالها. وقُدّر للترجمة الأولى أن تصدر في القاهرة أخيرًا، عن المكتب المصري للمطبوعات، بتوقيع المترجمة الأوكرانية أولينا خوميتسكا، وهي رواية "اثنا عشر أو تربية المرأة في ظروف غير مناسبة للحياة" التي حظيت بالظهور في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والخمسين.

 إيرين روزدوبودكو صحافية وروائية وشاعرة من مواليد دونيتسك. تخرجت في كلية الصحافة في جامعة تاراس شيفتشينكو الوطنية في كييف، ثم عملت في الإعلام المكتوب والمسموع في دونيتسك قبل ان تنتقل للعيش في كييف حيث تابعت العمل في الصحافة في صحيفة "رودوسلاف"، ومجلة "الحداثة". عملت كاتبة عمود في موقع الإذاعة الوطنية وفي صحيفة "الوقائع الأوكرانية"، إلى أن رأست تحرير مجلة "قافلة التاريخ". في جعبتها أكثر من ثلاثين رواية، تحول بعضها إلى أفلام سينمائية، وترجمت إلى عدد من اللغات الأوروبية. حصلت على جائزة "تتويج الكلمة" الأدبية الأوكرانية في ثلاث دورات. 

أما المترجمة أولينا خوميتسكا، فلا تقل شأنًا عن الكاتبة، فهي من أوائل المترجمين الذين أعادوا إحياء خط الترجمة بين الأوكرانية والعربية بعد انقطاع دام أكثر من خمسين عامًا، منذ زمن الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، الذي ترجم جملة من قصائد شيفتشينكو، بينها قصيدة "الميثاق". ترجمت خوميتسكا وفاضل العويل وفولوديمير مارتينيوك مختارات أدبية وفنية لتاراس شيفتشينكو (الكويت، 2016)، وذلك لمناسبة الذكرى المئتين على ولادة الشاعر. كما ترجمت مختارات للشاعرة ليسيا أوكراينكا مع سمير مندي (القاهرة، 2017)، وشاركت إلى جانب آخرين في ترجمة "أنطولوجيا القصة القصيرة الأوكرانية" (الرياض، 2021). تعمل خوميتسكا أستاذة للغة العربية وآدابها، وقد تخرج على يدها عشرات الطلاب، ومن بينهم مترجمون محترفون. خلال العقد الماضي نظمت خوميتسكا سلسلة من المؤتمرات المتعلقة بتاريخ الأدب العربي في جامعة تاراس شيفتشينكو الحكومية في كييف، وشاركت في مؤتمرات مختلفة في العالم العربي. بالإضافة إلى ذلك، أنشأت الزميلة خوميتسكا ورأست النادي المصري في جامعتها واستقبلت الأساتذة العرب ونظمت محاضرات لهم فيه. 


الرواية المترجمة الواقعة في 236 صفحة، والتي حرّرها سمير مندي، تحكي فيها كاتبة ناجحة تعيش في عالم الشهرة والأضواء الفارغ، واللهاث وراء الظهور والثروة، وتظهر صورتها في أغلفة المجالات الاجتماعية، تكمن محنتها في التفكير في واقعها ورغبتها في الانعتاق والفرار نحو جزيرة نائية. يقودها ذلك شيئاً فشيئاً إلى تحول عميق في نفسيتها حيث "اختفت الرغبات الواحدة تلو الأخرى بالتدريج وبمرو الوقت. عملية طويلة وشيقة. بدأت بشعور مختلف عندما كنت نشيطة في الحياة العامة. حدث ذلك في المسرح. فجأة بدأت أختنق من الخزي لدرجة أنني أغمضت عيني...". الخزي، ثم الخزي العميق مما هي عليه، ومحاولة تلمس مخرج منه، حتى لو كان المخرج مُحرجاً. 

للكاتبة إيرين روزدوبودكو أسلوب سهل ممتنع، يتميز بسبر المشاعر وعكسها على الورق نثرًا متينًا. تعنى جيدا بانتقاء المفردات ونثر المصطلحات، وهذا الأسلوب ناتج عن تاريخ طويل في الكتابة الأدبية وخاصة في فن الرواية النفسية، وليس من السهل أن تحافظ المترجمة على أسلوب الكاتبة، لكنها أفلحت في ذلك.

 يتألف النص الأصلي للرواية من خطين سرديين، الأول تتحدث فيه البطلة والثاني ترد فيه قصص الآخرين، وهو خط سردي متقطع. وبما أن كل راو ثانوي يتحدث بصيغة الأنا، فنحن أمام رواية يرويها نحو أحد عشر راو. أعطت الكاتبة كل راو ثانوي أسلوبًا خاصًا به، ويظهر أن خوميتسكا قد بذلت مجهودًا كبيرًا المحافظة على أسلوب الكاتبة بشكل عام، وفي المحافظة على التمايز بين كل راو ثانوي وآخر.

تقودنا البطلة إلى العالم المغلق لمرضى مصحة الأمراض النفسية. وظيفتها هناك هي الاستماع إليهم، وفق منهاج تجريبي جديد في الطب النفسي، على الرغم من أن الطبيب والممرضين يعتقدون أن حالاتهم مستعصية ومرضهم لا شفاء منه. تبدو قصصهم للوهلة الأولى مختلفة بعضها عن بعض، وكأنها مجرد أوهام. ولكن البطلة التي هالها دخول عوالم المرضى وساعدها الأرق، تستخدم التقنيات الصحافية التي تتقنها في التفريغ والتوضيب والتفكيك وإعادة الجمع والتحرير، للوقوف على الجانب الآخر من قصص المرضى عن أنفسهم ورؤيتهم للعالم ولدورهم فيه. تقودنا الكاتبة بمهارة بين قصص المرضى لتصدمنا في كل مرة بجدار البطلة الرئيسة وكيف يمكن أن تهضم تلك القصص وتبوتقها بتفكيرها في سردية واحدة، فتفقد الإحساس بالزمن وهي تسير بين تلك العوالم.  

تسير البطلة إلى النهاية فتصطدم بنصيحة عجوز حكيم: "حتى يفهمك الناس، ليس من الضروري أن يكون لديك آلاف المعجبين أو أن تجوب العالم لترويج أعمالك. لا يتطابق التسويق دائمًا مع الموهبة... يجب أن يكون لديك ولو عشرة أشخاص مخلصين... بينهم: شخص ذو نفوذ يحميك...، حكيم واحد...، تابع مفتون، متشكك واحد، واحد مثل تؤام روحك، هائم واحد يبحث عما تبحث عنه أنت، لص واحد أصلحته، حالم واحد يسمع ما لا يسمعه الآخرون، مسرنم واحد يبني واقعًا خاصًا به، فنان واحد يعرف حتى من كنت في حياتك قبل الماضية. هؤلاء العشرة أقوى من ألف لأنهم رعيتك وجيشك الفضي وقوتك". هؤلاء عشرة، لتكون أنت الحادي عشر، وأنت الآخر الثاني عشر. وهو الرقم "اثنا عشر" السحري المقدس نفسه، فتعبّر البطلة عن حاجتها إلى اثنتي عشرة بطاقة سفر نحو الجزيرة النائية المعزولة. نتذكر هنا تمرّد المخرج البلجيكي جاكو فان دورمال في شريطه السينمائي "العهد الأحدث" (2015)، وتملّصه من الرقم 12، عندما جمعت ابنة الرب "إيا"، التي مثلت دورها بيلي غروان، ثم عودتها للالتزام بعدد الحواريين.

في رواية "اثنا عشر أو تربية المرأة في ظروف غير مناسبة للحياة" يُسجل للمترجمة أن نصها قائم بذاته، وكأنه كتب في الأصل بالعربية، وقد سكبت فيه جهدها مراعية معايير السلاسة والانسيابية. كما راعت شروط الكتابة الأدبية الحديثة وفق قواعد الإملاء العربية المصرية المألوفة، ويكاد النص يخلو من الأخطاء اللغوية والنحوية، مع حُسن اختيارها المفردات والتعابير السهلة القريبة من القارئ، لكن المتينة في آن، والتي تعطي المعنى حقه. كما نجحت في إضفاء لمسة جمالية لغوية إلى نصّها، وشرحت ما استغلق فهمه من العبارات والمصطلحات في الهوامش.


المصدر: إيرين روزدوبودكو في روايتها "اثنا عشر"... سفر الهروب، عماد الدين رائف، جريدة المدن، 9 آذار 2024.