من تراث أغاتانغل كريمسكي الإبداعي


ساهم أغاتانغل كريمسكي، الذي أتقن نحو ستين لغة مساهمة كبيرة في تطوير الدراسات الشرقية والدراسات الأوكرانية، وترك نحو ألف  منشور علمي، شملت الدراسات والمقررات الجامعية والمقالات. تحتل الأعمال المتعلقة بالدراسات العربية واللغات السامية والتركية والإيرانية مكانة في أعماله، فهو مؤلف تاريخ للأدب العربي، وتاريخ تركيا وآدابها، بالإضافة إلى تاريخ بلاد فارس وآدابها، إلى جانب دراسات علمية كثيرة، حيث ضمّ 26 مجلدًا تراث كريمسكي في الدراسات الشرقية. كما أولى الكثير من الاهتمام بمشكلات تطوير اللغة الأدبية الأوكرانية والبحث الفولكلوري والإثنوغرافي، ولا سيما في مجال الأنثروبولوجيا، وحرّر العديد من القواميس والمعاجم والمؤلفات العلمية.


من مراسلات كريمسكي وفرانكو


الأوكرانية منذ الصبا

تنحدر عائلة أغاتانغل كريمسكي من شبه جزيرة القرم (لفظة كريمسكي تعني قرميّ) وكان أحد أسلافه مُلّا، من أقارب خان القرم. في عام 1696، هرب بسبب ظلم لحق به من بختشيساراي (بقجه ساراى) وانتهى به الأمر في ليتوانيا وحصل على لقب كريمسكي. وقد ولد أغاتانغل في عائلة ناطقة بالروسية. عمل والده، وهو تتاري من أصول بيلاروسية، مدرسًا للتاريخ والجغرافيا، وصنّف كتيبات وكتبًا في التاريخ المحلي حظيت بالشهرة في زمانها. أما والدته فكانت من أصل بولندي ليتواني. في شبابه، تزايد حبّ أوكرانيا في قلب أغاتانغل، على الرغم من توجهات والديه، وكان ذلك تحت تأثير أعمال يوري فيدكوفيتش، وليسيا أوكرينكا، وكذلك دروس اللغة التي تلقاها على يدي بافيل تشيتتسكي. يقول حول نشأته: "أثناء دراستي، كرّست كل لحظة فراغ لديّ لأوكرانيا. وكانت أولى اهتماماتي، قرأت جميع أنواع الكتب باجتهاد، وأوليت اهتمامًا خاصًا بالمواد الإثنوغرافية، وأعدت قراءة جميع أنواع الأعمال اللغوية"، فكانت تلك أولى العلامات الدالة على توجهه إلى أوكرانيا عبر اللغة.  

اشتهر كريمسكي في وقت مبكر جدًا، ففي سن التاسعة عشرة، بدأ مراسلاته مع الشاعر إيفان فرانكو (نُشرت مراسلاتهما في كتاب عام 2022). وحين كان في الثالثة والعشرين، عُرض عليه منصب في قسم فقه اللغة الروسية - الأوكرانية بجامعة لفيف لمتابعة إنجازات ميخايلو خرشيفسكي، الذي كان قد رأس القسم. وفي الرابعة والعشرين، عندما كان كريمسكي طالبًا في معهد لازاريف للغات الشرقية في موسكو، نشر مجموعته القصصية الخاصة "تقارير ورسومات من الحياة الأوكرانية" في كولوميا، حيث ظهر الجزء الأول روايته الشهيرة "أندريه لاغوفسكي".

علاف ديوان سعف النخيل


العالم اللغوي

في عام 1896، عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، وبعد اجتيازه امتحانات الماجستير في الدراسات العربية وفقه اللغة السلافية، أرسل كريمسكي إلى لبنان وسوريا لدراسة اللغة العربية الحديثة والعمل على المخطوطات. سمحت له هذه الرحلة بالكتابة الإبداعية ففي بيروت ولد ديوانه الشعري الوحيد "سعف النخيل" ومجموعة "قصص بيروتية".

في الألسنيات، يختلف الباحثون حول عدد اللغات التي عرفها كريمسكي، حيث زعم البعض أنه كان يتحدث 56 لغة، والبعض الآخر قدرها بـ 60. كما أنه درس لهجات ومجموعات لغوية مختلفة، وربما دانى عدد اللغات التي فهمها واستطاع قراءتها وكتابتها المئة. وقد خاض كريمسكي جدلًا علميًا حول تاريخ اللغة الأوكرانية، وأكد أنها كانت موجودة بالفعل في القرن الحادي عشر كوحدة لغوية مستقلة أمكن التعبير عنها بوضوح وفردية. وقد بنى هذا الموقف على بحث علمي فريد قدم نتائجه في أعماله، على وجه الخصوص، في "القواعد الأوكرانية" و"مقالات عن تاريخ اللغة الأوكرانية". وقد تقاطعت بحوث كريمسكي العلمية مع الموقف الرسمي المُتبنّى في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وكذلك الأطروحة الرئيسة في روسيا الحديثة حول أن "كييف روس ضمّت ثلاثة شعوب شقيقة وثلاث لغات شقيقة: الروسية والأوكرانية والبيلاروسية".

مجموعة من آثار العالم أغاتانغل كريمسكي

أكاديمية العلوم

في عام 1918، انتقل كريمسكي إلى كييف بدعوة من فلاديمير إيفانوفيتش فيرنادسكي لتأسيس الأكاديمية الأوكرانية للعلوم. شارك في لجنة المراسلات لتطوير مشروع قانون الأكاديمية الأوكرانية للعلوم وانتخب ضمن الفريق الأول من الأكاديميين. شغل مناصب رئيسة في الأكاديمية وبات سكرتيرها ورئيس القسم التاريخي واللغوي الأول بالأكاديمية (1918-1929). وبمبادرة منه في عام 1925، تأسس فرع كييف للجمعية العلمية للدراسات الشرقية. منذ عام 1926، رأس لجنة دراسة الكتابة البيزنطية وتأثيرها على أوكرانيا، وأشرك العديد من الخبراء في اللغات الشرقية والكلاسيكية، بما في ذلك المعلمين السابقين في أكاديمية كييف اللاهوتية، في تلك اللجنة. وبالتوازي، قام درّس اللغة والأدب في جامعة كييف.

بمبادرة من كريمسكي، في عام 1918، أنشأت أكاديمية العلوم الأوكرانية لجنة اللغة الأوكرانية الحيّة بهدف تطوير قاموس أوكراني-روسي. وتحت قيادته وبمشاركته، جُمعت "قواعد التهجئة الأوكرانية" في عام 1921. ورأى أن مصادر دراسة تاريخ اللغة هي آثار أصلية، وقد نشر عددًا من الآثار المكتوبة كملحق لـ "القواعد الأوكرانية"، وكذلك ضمن كتاب "مقالات عن تاريخ اللغة الأوكرانية ومختارات منها".

عماد الدين رائف